في غياب التنسيق بين خطط مشاريع التنمية العمرانية وقدرات المؤسسات الإنتاجية للمواد الأساسية للتنمية العمرانية، تظهر الأزمات بين العرض والطلب، وللأسف الشديد لم نستفد من الأخطاء السابقة التي سببت لنا أزمات في الأسواق، وهذا يؤكد أن الدول النامية ونحن منها لا تتفاعل مع الأحداث إلا بعد وقوعها. فالإدارة أصبحت في واقعها (إدارة أزمات) ويعود السبب إلى عدم وجود تنسيق مشترك بين الجهات المعنية بالأزمات. فالأمثلة عديدة في الأسواق السعودية للسلع الغذائية والأساسية منها أزمة الشعير والأرز والحديد في السنين الماضية إلى أزمة الأسمنت التي تعيشها أسواقنا حالياً. وتلجأ الدولة أحياناً لتطويع الأنظمة واللوائح لمعالجة بعض الظواهر مثل ظاهرة الإغراق التي تدفعها إلى وضع ضوابط على استيراد بعض السلع أو منع تصدير منتجات أو مواد خام أحياناً للحفاظ على حاجة السوق. وقد حدث هذا في الماضي القريب عندما وضعت ضوابط على تصدير الحديد والأسمنت وهي سلع مدعومة بقروض حكومية وذلك لتأمين حاجة السوق السعودية، أو عندما وُضعت في الماضي ضوابط على استيراد الأسمنت لحماية مصانع الأسمنت، ومع توجه الدولة التنموي لإنشاء مشاريع الإسكان ورصد ميزانيات ضخمة جداً لمشاريع وزارة الإسكان في جميع أنحاء المملكة ومع التوجه نحو البدء في تنفيذ المخطط العمراني في المدن الاقتصادية بالإضافة إلى مشاريع توسعة ساحات الحرم بمكة المكرمة وإقامة مشاريع إسكانية عملاقة حولها عن طريق نزع الملكيات المجاورة ودفع تعويضات كبيرة ستدفع أصحابها إلى الاستثمار في مشاريع عقارية في مكة المكرمة وفي مناطق أخرى، هذا بالإضافة إلى مشاريع الدولة العمرانية في التعليم الجامعي والتعليم النظامي والفني وغيرها من مشاريع البنية التحتية التي ستتطلب حجما كبيرا جداً من المواد الأساسية للبناء في السنوات العشر القادمة والتي لم يحسب حسابها بدقة بما يتواءم مع القدرة الإنتاجية للمصانع الوطنية. وكما قلت سابقاً في غياب المعلومة الدقيقة عن حجم الاحتياج الفعلي لمشاريع التنمية الحكومية والخاصة من المواد الأساسية تظهر الفجوة بين العرض والطلب للمواد الأساسية للبناء وفي ظل المنافسة القوية بين شركات المقاولات للمشاريع الحكومية تلجأ بعض الشركات إلى سحب أكبر كميات من المواد الأساسية للبناء، الأسمنت والحديد وهنا تظهر الفجوة ويحدث العجز في الأسواق في أحد هذه المواد الأساسية، وهذا هو وضع أزمة الأسمنت التي تعاني منها بعض الأسواق في مناطق المملكة والتي بدأت في منطقة مكة المكرمة ثم انتقلت إلى منطقة المدينة المنورة واتجهت إلى المنطقة الشرقية وهي في طريقها إلى المنطقة الوسطى، ولقد كنت متوقعا انتشارها ومازلت أتوقع بأن أزمة الحديد ستعود إلى الظهور في الشهور القادمة ما لم يتم تدارك الأمر بخطط استباقية قصيرة المدى وطويلة المدى ومازلت عند اقتراحي السابق؛ وهو ألا تلجأ شركات مقاولات المشاريع الحكومية إلى سحب كميات المواد الأساسية للبناء من الأسمنت والحديد من الأسواق أو من المصادر الرئيسية وهي مصانع الأسمنت والحديد ولو فعلت مثل الماضي ستعود أزمة الحديد والأسمنت في التضخم وسيتضرر المواطنون وعلى وجه الخصوص ذوو الدخل المحدود والمقترضون من صندوق التنمية العقارية أو من البنوك التجارية على ضمان صندوق التنمية العقارية، أو الذين يبنون على حسابهم الخاص. واقتراحي هو أن تؤمن شركات المقاولات للمشاريع الحكومية احتياجها من الأسواق الخارجية عن طريق الاستيراد إذا كانت احتياجاتها ستؤثر على العرض والطلب في السوق السعودي وعلى الدولة أن تعوضهم عن التكلفة الإضافية إذا وجدت وذلك حفاظاً على العرض والطلب في السوق السعودي.

إن أزمة الأسمنت القائمة ستؤثر سلباً على تكلفة البناء وستؤثر سلباً على العلاقة بين المقاولين والأطراف الأخرى من أصحاب المشاريع وستؤخر عملية البناء.

ورغم ظهور بعض الأسباب التي توجه فيها الاتهامات من مصانع الأسمنت إلى شركة أرامكو وتحميلها مسؤولية الأزمة لتأخر أو تقاعس شركة أرامكو في تمويل المصانع بالوقود المطلوب للتشغيل الكامل لبعض المصانع، ورغم نفي هذه التهم من قبل شركة أرامكو، إلا أن بعض المعنيين بالأزمة أكدوا أن هذا الموضوع أحد الأسباب التي أسهمت في نقص العرض من الأسمنت وارتفاع سعر كيس الأسمنت إلى أكثر من خمسة وعشرين ريالا بمدينة جدة مثلا، رغم أن السعر المحدد هو خمسة عشر ريالا وهي زيادة مبالغ فيها وتحدث ضررا قد يسبب خسارة كبيرة في مشاريع البناء. وارتفع سعر الأسمنت السائب من خلال مصانع الخرسانة الجاهزة إلى 230 ريالا.

إن أزمة الأسمنت مؤشر سلبي لحركة التنمية العمرانية وعلى وجه الخصوص مشاريع الإسكان الشعبي وسكن ذوي الدخل المحدود، وينبغي على الجهات المعنية في الدولة سرعة التدخل لمعالجتها على المدى القصير والمدى الطويل. وأجزم أن مشاريع ضخمة للتنمية العمرانية في السنوات العشر القادمة تتطلب مزيداً من التوسع في المشاريع الصناعية للبناء وعلى وجه الخصوص صناعة الأسمنت والحديد، وتوسعة الطاقة الإنتاجية للمصانع المحلية. وهذا جزء من الحلول المتوسطة المدى، أما الحلول السريعة فأعتقد أن تشجيع الاستيراد من بعض الأسواق المجاورة ولاسيما أن هناك كميات وافرة متاحة للتصدير مع إعطاء امتيازات وتسهيلات للمستوردين.

أما الحلول البديلة؛ فهي استخدام بدائل البناء الأخرى والمستخدمة في الدول الصناعية الأخرى ومنها المباني الخشبية الأسمنتية التي تستخدم نسبة 30% من الأسمنت في المباني وإن كانت مباني لا تتلاءم مع بيئة المملكة إلا أنها بدائل مطروحة سريعة التنفيذ وأقل تكلفة.

إن الأزمات التي تمر بها بعض أسواق المملكة هي ـ من وجهة نظري ـ نتيجة عدم التنسيق المسبق بين المشاريع التنموية والإمكانات الإنتاجية المتاحة. متمنياً على وزارة التجارة والصناعة تبني خطة وطنية طويلة المدى تربط خطط التنمية العمرانية بالطاقة الإنتاجية للمصانع الوطنية والعمل عاجلاً للتدخل بالحلول لضبط السوق ومواءمة العرض بالطلب.