ما أجمل الحديثَ عن أمجاد ومفاخر الأجداد إبّانَ الخلافة الإسلامية والتفاؤلَ والأحلام بعودة تلك الأيام، خاصة في ظل أوضاعٍ مأساوية يمرّ بها العالمان العربيُّ والإسلامي، وكم هي أخَّاذة لقلوب الناس هذه الأحاديث، حيث ترفع من معنوياتهم ويفرحون بها كثيرا.

دعاني للكتابة في الموضوع حديثُ المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر قبل فترة عن الخلافة الإسلامية، حيث عبّر بكل عفوية وبعيدا عن حسابات السياسة أن الخلافة الراشدة هي هدف الجماعة وغايتها العظمى!

وقبل أن أدخلَ في أحاديث السياسيين؛ فلا أخفي تقديري وميلي للشعور بالأخوة الإسلامية الذي أبداه المرشد، وأن هذا المطلب محبوب للجميع كأساس للوحدة والاجتماع، إلا أن السياسة لها أهلُها وأحاديثُهم الخاصةُ بهم! كما أن العاطفة والحديث السياسي أعداءٌ، فلا يُظهر السياسيُّ مقاصدَه الحقيقية غالبا كما يفعل ذلك التاجرُ المُحترف، وإلا اعتُبِر متطفّلاً أو دخيلاً على المهنة!

بالتأكيد أن كلام المرشد لم يكن عابرا، وإنما خرج عن إيمان وقناعة حقيقية، فماذا يعني المرشد بكلامه السابق؟ فهو كزعيم لأحد التيارات في البلد التي حققت الأغلبية (وربما يُصبح الرئيس منهم أيضا)، حقق ذلك من خلال الوسائل الديموقراطية أو لِنَقُلْ بانتخاب الشعب لهم، بناء على نظام متكامل للحكم (ربما يطرأ عليه تغيير في المستقبل ولكن يجب أن يكون من خلال الوسائل الشرعية أو القانونية)، فما الذي يعنيه المرشد بالخلافة؟ هل هي الخلافة بمعناها التاريخي التقليدي؟ وهل فوّضه الشعب لذلك؟ وهل ستكون خلافة بمعنى خليفة ذي سلطة مطلقة كما كان إبان الخلافة العثمانية والعباسية والأموية، ونعود من سلطة الظالم اللاديني إلى سلطة مطلقة باسم الدين؟ كما أنه كممثل لتيار أو حزب فإنه يجب أن يُبيّن رؤية الجماعة لكيفية الصورة التي يريدون أو يرغبون في تطبيقها؟ حيث لن يقبل الناس بوصفة طبيّة ويوافقون عليها كما تشاء تلك الجماعة! ولا يكفي في ذلك أدبيات الجماعة القديمة حيث انتقلوا من مرحلة الحظر والسرية إلى الوصول للحكم، وعليهم أن يُبيّنوا للناس مشروعهم الحقيقي. أليس مثلُ هذا التصريح مدعاةً لإثارة الشكوك في نوايا الجماعة وأهدافها؟ وأنا هنا لست مُشككا وإنما متسائلا ومتعجبا لمثل هذا المستوى في الوعي والإدراك السياسي الذي يتمتع به أعلى شخص في الجماعة!

العجيب أن قيادات الشباب في الجماعة، وبعد هذا التصريح مباشرة أخذوا بالتواصل مع وسائل الإعلام لتصحيح الصورة وتبيينها بشكل إيجابي! وأظهروا في الحقيقة قدرا جيدا من الإدراك السياسي وحاولوا تلطيف معاني وعواقب مثل هذه التصريحات العاطفية، وهذا يدعو للتساؤل عن حقيقة الفجوة بين كوادر الجماعة الشابّة والمثقفة وقياداتها الشيوخ! وقد حاولوا تبرير التصريحات بشكل حضاري ومقبول بأنه يقصد خلافة بشكل كيانات موحدة أشبه بالفيدراليات وغير ذلك، إلا أن هذا لا يُعفي الجماعة من لزوم كشف برنامجها بشكل واضح، كما لا يعفي المرشد من تحمّل مسؤولية تصريحاته.

لنفرض أن الجماعة بعد وصولها للحكم؛ قامت بتغيير الدستور وأقامت خلافة كما يريدون، فهل هذا هو الهدف الحقيقي؟ وهل هو فعلا ما أراده الشعب؟

إن على الجماعة وغيرها من التيارات التي فازت في الانتخابات أن تعلم أن هذه الثورات هي ثورات جياع! ولن يقبل أولئك استئثارَ أي تيار بالحكم طالما فشل في تحقيق مطالبهم الحقيقية، بل سيقف أمامهم الإسلاميون الآخرون قبل غيرهم. وما فائدة الخلافة لو كانت من البحر إلى البحر في ظل فساد سياسي وإداري وجميع أشكال الفقر المعرفي والمعيشي موجودة في كل مكان من البلد؟ وما جدواها إذا كنا لا نملك صناعة حتى طائرة شراعية! فضلا عن الصناعات المتطورة.

إن الثورة يجب أن تركّز على بناء البلد والإنسان معاً، يجب أن تضع البناء المعرفي والثقافي أولا ويليه البناء الاقتصادي والسياسي، ومن ثمَّ الأستاذية على العالم كما يعبر المرشد. وليس بخفيٍّ أن أهم ما أوصل الجماعة للريادة في الانتخابات الأخيرة هو أمران: أولهما الجوع والرغبة في إصلاح الوضع الاقتصادي ومحاربة الفساد، والثاني هو رغبة الناس في عودة البلد إلى حضن الثقافة والرابطة الإسلامية التي طالما عاش عليها البلد في تاريخه. إلا أن على الجماعة ألا تخلط بين الأمرين وأن تُوازن بينهما بشكل لا يضر أحدهما الآخر.

يتضح من هذا التصريح استلاب وسيطرة الأفكار المثالية القديمة التي كانت مسيطرة على التيارات الإسلامية السياسية، حيث نلاحظ كيف استبق المرشد الأحداث وقبل أن تصل الجماعة إلى حكم مصر حتى! مما يُبين وبوضوح قصور الوعي والإدراك السياسي!

ولا يخفى كم تُسبب مثلُ هذه التصريحات العاطفية من أضرار، ربما حتى على مسار الثورات الأخرى في بقية بلدان العالم العربي، ومدى استمرار التأييد والدعم الدولي لها. كما أنها لا تُقدم ولا تُؤخر سوى دغدغة مشاعر البسطاء وربما الناخبين! آمل أن تكون مخاوفي غير مُحقّة وأن تُحقق الجماعة أفضل نتائج الإصلاح والتقدم، وفي نجاحها نجاح للعالم العربي والإسلامي أجمع..