قد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن "سِفْرُ العمران" للأستاذ الدكتور مشاري النعيم (نادي المنطقة الشرقية الأدبي، 2010) هو كتاب العام.. لا لفرادة موضوعه في العمران الحضري والعمارة وحسب، ولكن في الروح النقديّة التي طبعت الكتاب في حجمه الموسوعي ذي الصفحات التي تقترب من 500 صفحة. جرأة في التناول والاقتحام وابتعاد عن المألوفية التي تركن إلى السكون وترضى بما هو حاصل وتحاول تسويغه إن لم نقل تبنّيه.
يحتوي الكتاب على مائة مقال بمثابة مائة بيان نقدي، تخوض في شؤون العمارة وشجونها من الحدّ السياسي؛ الثقافي؛ الاجتماعي؛ الاقتصادي؛ إلى الحد التخطيطي الذي يجتاح المدن والقرى بشكل ترقيعي فوضوي بقيادة "معالي الأمين" وحده. لا يتردّد مشاري النعيم في توجيه سهام نقده إلى الذهنية الجامدة الراكدة المذعنة للتقاليد ولوهم هويّةٍ ينظر إليها البعض كيانا ناجزا مستقرا غير قابل للنمو والتطوير والتحوّل. وهذا ناتج من رؤيته الديناميكيّة للثقافة التي لا تنزّل في كلٍّ شامل. فهناك نواة لهذه الثقافة محكومة بمركزيّة القيم الثابتة، غير أن هذه النواة لها محيط من التقاليد خاضعة للتشكّل والتغيّر والتحوّل وإعادة البناء تبعاً للظرف الزماني والمكاني، بما يفتح مجالا للزحزحة والإبداع. والإشكالية في هؤلاء الذين يطابقون بين النواة والمحيط. تركيب التقاليد المتغيرة "المخترعة" ومعاملتها أصلاً ثابتاً؛ ينشأ عنه السكون المعرفي والطمأنينة إلى ملاذ ثابت تتخلّق معه الأوهام والأشكال الاجتراريّة الماضويّة، تُحبَس فيه الهويّة والثقافة على ظنٍّ أن هذا هو الصحيح وسواه باطل. وهذا ما يفككه النعيم عمرانيا وفكريّا.
ومن اللافت قدرةُ الكاتب على الخروج من المربّع، ومعاودة النظر والتقليب بطريقة إبداعيّة تخصّه، ومنها رؤيته لتراثنا العمراني وكيفية استعادته واستيعابه في عالم المدينة المعاصرة، على نحوٍ يذكّرني بنظريّة المقاصد عند الإمام الشاطبي التي يقول عنها أحمد الريسوني "إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وُضعتْ الشريعة لأجل تحقيقها، لمصلحة العباد". فالنعيم لا تتملّكه النظرة إلى التراث كمنتج مادي يُعاد توظيفه بطريقة القص واللصق والتزيين الخارجي الذي يخون هذا التراث وتاريخه. هو يركّز على القيم والمبادئ والأشكال التي يختزنها هذا التراث، ويمكن التعبير عنها -في الوقت الحاضر- بصريّاً دون الانحباس في صور وتقنيّات محددة.
هذا الداخل، المباطِن هو المعنى المترحّل عبر الأزمة وعبر الشخصيّات، والذي لا ينفد. ذلك أنه يقع في المؤجّل ومنطقة تراكم الخبرة التي تفسح مجالاً كل مرة لاتّساع المعنى وعدم استنفاده. وهنا أشير إلى ذلك الحسّ الصوفي عند النعيم وهو يتناول المكان وطقوس المدينة، حيث يغيب الحدُّ الظاهر وتبرز الروح من خلف الحجر وتطفر من الشعيرة.
"سِفْرُ العمران" كتابٌ نقدي مسطورٌ بماء الروح وبقوّة اليأس التي تنزع إلى التغيير ومحاربة التشوّه.