نميز في هذا الحديث بين نوعين من القراءة لمشروع النهضة. قراءة نقدية تسلم بمنطلقات هذا المشروع، وتسعى لرفده بالمزيد من الزخم، بما يتسق مع التطور التاريخي، والثورات العلمية التي يشهدها العصر، والتماهي مع المتغيرات السياسية الكونية. وقراءة أخرى، ترفض هذا المشروع، ولا تسلم بالمنجزات التي حققها العرب، منذ بدأت يقظتهم، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عبر محاولات حثيثة لاقتحام بوابات التاريخ.
القراءة الموضوعية لمشروع النهضة ينبغي ألا تكون عدمية. وشرط تحقق ذلك، هو قدرتها على التفاعل مع الواقع الراهن، واستنباط مفاهيم وأدوات قادرة على تفسير ما يجري من حولها، من تحولات كبرى، تشهدها المنطقة العربية، والتعامل إيجابيا مع هذه التحولات.
تزامنت اليقظة العربية، مع صيرورة انهيار النظام الكولونيالي، ونمو مطرد لحركات التحرر الوطنية بالعالم الثالث. وكان ذلك من أبرز سمات القرن العشرين. فقد احتضنت تطلعات شعوبها، في الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير.
تبنت حركة اليقظة، منذ البداية مفهومها الخاص للأمة، المنطلق من طبيعة بيئتها، وأكدت حضور الأمة من خلال حضور اللغة والتاريخ والثقافة. وقد مثل ذلك افتراقا مع المفهوم السياسي الأوروبي للأمة، الذي ربط وجودها بصعود طبقة أرباب العمل للسلطة. الأمة في رؤية حركة اليقظة العربية، ظاهرة اجتماعية، قابلة للوجود في كل المراحل، وليست مرتبطة بالضرورة، بنمط الإنتاج الرأسمالي. والأمة العربية ظاهرة ممتدة في التاريخ. تؤكد ذلك، القراءة الدقيقة للحضور العربي عبر التاريخ، وبشكل خاص، الدور الذي لعبه العرب بعد بزوغ رسالة الإسلام في نشر الدين الحنيف، وبالتالي، تعميم الحضارة العربية الإسلامية.
في القارة الأوروبية، أسهمت حاجة أرباب العمل، في إلغاء الحواجز الجمركية، وفتح الحدود بين الممالك الصغيرة، والعمل على خلق أسواق جديدة للمنتجات الصناعية، في تكوين الأمم الحديثة على أسس قومية. وحين اكتشفت النخب الاقتصادية الأوروبية أن بقاءها داخل حدودها القومية سيحجب عنها إمكانية النمو، عبرت حدود أممها، وتخلت عن فكرها القومي، الذي وعدت من خلاله البشر، بالسلام والحرية والحب، ودفعت بجيوشها وأساطيلها لبلدان آسيا وأفريقيا لفرض الهيمنة على شعوبها.
في العالم الثالث، وضمنه بلداننا العربية، ارتبطت اليقظة بتحقيق الاستقلال، والتخلص من التبعية الاقتصادية للخارج. وهي بذلك نقيض للحركة القومية الأوروبية. لقد ولدت الأخيرة في السوق، بينما برزت قوميات العالم الثالث مكافحة ضد السوق. لقد كان الإيقاع السياسي العربي الذي يموج به الشارع مفعما بالأماني بتحقيق الاستقلال. وقد جاء ذلك متزامنا مع بروز جملة من الأمور، بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية، ساهمت في تعضيد هذه التوجهات. فقد طغت فكرة الحياد الإيجابي، وبرزت الدول التي استقلت حديثا، على المسرح السياسي الدولي. وتشكل تجمع دولي للدول النامية، التي شهدت البؤس الإنساني الذي أفرزته الحربان العالميتان. لقد وجدت أن من مصلحتها أن تنأى عن الارتباط بأي من المعسكرين المتصارعين: الرأسمالية والشيوعية. وتمكنت أن تؤسس حركة عدم الانحياز، وتبنت سياسات بعيدة عن الأحلاف والتكتلات العسكرية لأي من المعسكرين المتنافسين. وشكلت حضورا قويا في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أما الحقيقة الأخرى، فتمثلت في تنامي فكرة التكامل العربي. وكان الأساس النظري الذي استندت عليه، أن المجموعات البشرية التي عاشت على البقعة الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، جمعها إرث حضاري وتاريخي وثقافي. وهي بما يربطها من وحدة لغوية وجغرافية واقتصادية، قدرها الانضواء تحت عمل مشترك، يجعل من رفضها للمشروع الصهيوني، فعلا إيجابيا، أدواته ومقوماته عمق الأمة، حين تضع إمكاناتها ومواردها وموروثاتها في خدمة هذا الرفض.
ورأت حركة اليقظة العربية، أن الحرية التي يعمل على صيانتها كل بلد عربي على حدة، تواجه مصاعب كبيرة، طالما أن السيادة غير مكتملة والقلوب متفرقة. فالحرية بالمعنى العميق والشامل هي تلك التي تبلغها الأمة من خلال بنائها لقدراتها الذاتية. إن التكامل بين العرب، على هذا الأساس، لا يرفد العرب بقوة اقتصادية وسياسية هائلة فقط، ولكنه يحدث تغيرا في شكل العلاقة بين هذه الشعوب.
وقد أدى تنامي فكرة العدل الاجتماعي لدى العرب، لربط فكرة التضامن العربي بموضوع التنمية، التي لا يمكن أن تتحقق في ظل ضعف الهياكل الاجتماعية العربية، إلا عبر تخطيط اقتصادي، يهدف لتنفيذ المشاريع الأساسية التي تستجيب لحاجات الناس، بما يعني رفض أن تكون التنمية في المجتمع العربي حاصل فوضى ومضاربات الحرية الاقتصادية.
إن التنمية ذات الأبعاد الكبيرة، بما تتطلبه من رؤوس أموال ضخمة، وقدرات بشرية هائلة، ومواد خام وموارد وأسواق واسعة، لا يمكن أن يحققها أي بلد عربي بمفرده، وإنما من خلال تكامل اقتصادي بين مجموعات تتجانس، أو على الأقل تتقارب، في برامجها الاقتصادية والاجتماعية، وتصبح قادرة على إحداث تغيرات أساسية وجذرية في البنى الاقتصادية والهيكلية القائمة.
تساوقت الطرق التي تفاعلت بها هذه العوامل بالبلدان العربية، لكنها اختلفت من بلد عربي لآخر، تبعا لمستوى النمو الاجتماعي والاقتصادي لهذه البلدان من جهة، ونوعية الاستجابة المطلوبة في المواجهة مع القوى المهيمنة من جهة أخرى.
ما علاقة هذه القراءة، بالعناصر التي صنعت مشروع الأمة، وما هي معوقات المشروع النهضوي العربي، الذي اتضحت بعض معالمه بين الحربين الكونيتين، ومارس أدوارا بارزة في الواقع العربي المعاصر. وأين يقف هذا المشروع في الوقت الراهن. أسئلة سنتناول الإجابة عليها في محطات أخرى قادمة بإذن الله.