صار معلوماً بالتجربة أن الحركة نقيض التوقف.. وأن التغير نقيض الثبات. وأن التحول نقيض الجمود ولهذا تتقدم المجتمعات التي تتحرك وتتغير وتتحول وعلى عكسها تلك المجتمعات المتكلسة الجامدة التي تخشى وتهاب التغيير.
وقد أبدعت المجتمعات التي جربت واختبرت حتى وصلت إلى النتائج التي لا يخالجها شك. وغني عن القول إن المجتمعات المتقدمة قد وصلت إلى ما هي عليه بعد أن أفسحت لعقول علمائها فرصة دخول المعامل وإعمال البحث والتقصي وتدوين النتائج والحذف والإضافة والتغيير والتعديل في جهد لا يكل وبذل لا يمل وصولاً إلى النتائج الحتمية والبرهان.
ولهذا آمنوا بأن التجربة أكبر برهان.. في حين بقيت المجتمعات النامية أو المتخلفة أو المختلفة تتهيب التجربة وتخاف من تمحيص ما تواتر عليه العرف. وما ترسخ في نفوس الناس من قناعة قد يثبت عكسها لو تم اختبارها (أرجو أن لا أكون مضطراً لتقديم مذكرة تفسيرية أو كتالوج توضيحي حتى لا تذهب بعض التفاسير الظنية إلى أنني أتكلم عن التغيير في الثوابت الدينية حاشا لله بمعنى آخر فإن كل ما خلا أركان الإسلام والايمان وما ورد في القرآن المطهر والسنة الصحيحة قابل للأخذ والرد والحذف والإضافة والتجريب والاختبار) لكن الناس في المجتمعات "النايمة" قد ران على صدورها وتجذر في عرفها أن التجربة أكبر "بركان" ولهذا تجد مثل هؤلاء ينحازون للقديم ويتهيبون الجديد حتى ولو لم يتعرفوا عليه فتراهم يمجدون الماضي ويقدسون السابق.
انظر إلينا في المجالس وكيف نتحسر على زمننا الماضي ونندب زمن الحاضر وما أفرزه من جيل اتكالي.. نفعي.. وأناني ولا ندرك أننا نذم أنفسنا وأساليبنا التربوية وأن الذي نراه خللاً وتخلياً عن التبعية إنما هو التغير والتحول الذي يفرضه صراع الأجيال وأنهم إنما خلقوا لزمان غير زماننا فلا يصح والحال كذلك أن نقسرهم على الاستنساخ والمماثلة في حين كان الأولى أن نحفزهم على المغايرة والاستقلالية.
استمع إلى بعض الآباء وهو يمجد نفسه ويثني على صفاته ويعلي من سلوكه ويقرع أبناءه ويلومهم على أنهم ليسوا مثله وهو يدرك في قرارة نفسه أنه يدعي ويزيد ويزايد فكأنه المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وينسى أن الأبناء يدركون بفطنتهم ويشمون بحاستهم ما يعتري كلام أبيهم من مبالغة وما يعتوره من تزييف وخطل .. وفات على هذا الأب أن يجعل من نفسه الأمثولة من خلال خلق الأنموذج الذي يحتذى بالمشاهدة ومسايرة الواقع لا المتخيل.
وبالقياس فإن مجتمعنا يعاني-غالبا -من غياب القدوة التي تحتذى: المعلم في الفصل والمدرسة لا يقنع طلابه لأنه يتحدث عن مثاليات تربوية كعدم التدخين والانضباط المروري وربط الحزام وممارسة الرياضة والقراءة وتثقيف الذات لكنه بالمقابل لا يلتزم – ربما -بواحدة من هذه الشعائر... والمدير في إدارته يتحدث عن الانضباط في الحضور والانصراف وعن النزاهة ويمعن في ذم المحسوبية لكنه غارق في خلاف ما يقول وإليك خطيب المسجد الذي يذم غلاء المهور والإسراف والغيبة والنميمة وتراه يشرّق عن غرب كلامه... وهكذا يمكنك القياس على القاعدة العريضة من المجتمع لتجد أننا كالشعراء في وصف القرآن لهم ( ألم تر أنهم في كل وادٍٍ يهيمون* وأنهم يقولون مالا يفعلون ).