هل تخيلت نفسك يوما تعيش كنحلة داخل خلية نحل!؟ في أرامكو يمكن ذلك، فـ"كل شيء يمكنك أن تتخيله فهو حقيقي بالنسبة لك"، كما قال بابلو بيكاسو الفنان الإسباني العالمي الذي تتذكره ومقولته جيدا خلال حياة 48 ساعة تقضيها داخل عالم "أرامكو" الذي يعمل فيه 54 ألف موظف وموظفة، 25 % منهم شباب تحت سن الثلاثين، إنه عالم "مُتخيل" وصل إلى "الحقيقة" عبر رحلة قطعت ما بين الحُلم والمستحيل بمسافة تشبه ما بين "الظهران" قرب الدمام في المنطقة الشرقية إلى "حقل الشيبة" في صحراء الربع الخالي، التي تفصل بين نقطتين جغرافيتين (800 كيلو) تملؤها الكثبان الرملية العملاقة والموغلة في التيه!
من رقم "7" إلى "النانو"
ومن رقم "7" يبدأ الأرامكويّون والأرامكويّات رحلتهم مع زوارهم وهم متحمسون وجادون دائما كالنحل أينما رأيتهم في مختلف الأقسام بمقر الشركة النفطية الأكبر في العالم بالظهران، فهذا الرقم لا يمرّ من أمامهم مرور الكرام كالآخرين رغم ما له من أسرار غيبية، إنهم يحرصون أن يكون درس التاريخ الأول لزوارهم ممن يُسمح لهم بالعبور إليهم.
فلماذا رقم (7)؟ لأنه مسمى أول نقطة بترولية على الأرض السعودية اكتشفت عام 1938، عُرفت ببئر الخير (بئر الدمام رقم 7) ومنها كانت بداية مسيرة البناء في الدولة السعودية، ورغم التمسك بالتاريخ الذي صنعته أرامكو إلا أن عيونها تلاحق الثورات العلمية وصولا إلى "النانو"، وكما يقول مدير عام الشؤون العامة ناصر النفيسي عن تجربة أرامكو في تجددها العلمي"نحن مهتمون بـ"النانو" ونلاحق كل جديد في ثورة العلوم الحديثة من أجل تطوير صناعات الشركة البترولية وخدماتها الإنتاجية".
"أرامكويّات صغيرات" قادمات
نورة وأخريات، فتيات سعوديات لم يصلن للعشرين من أعمارهن، هنّ خريجات المرحلة الثانوية والبالغ عددهن 58 طالبة بتن من الأرامكويات الصغيرات الطامحات في تفكيك طلاسم قشرة الأرض بعد أن وجدن فيها ما يُغري فضولهن للبحث عن الذهب الأسود، إنهن يتطلعن ليكنّ يوما من موظفات "أرامكو السعودية" اللاتي يبلغ عددهن اليوم ضمن موظفي الشركة 1980 موظفة سعودية، يعملن في تخصصات مختلفة، مثل مهندسة بترول ومهندسة كيميائية وجيوفيزيائية وجيولوجية ومحللة تخطيط وبرامج، وكذلك طبيبة وممرضة ووظائف أخرى إدارية ومكتبية، ليس ذلك فقط، بعضهن في وظائف قيادية موازية لزملائهن الرجال، فأرامكو لا تعترف إلا بمعيار الكفاءة دون حواجز متوهمة، ولهذا لا تستغرب أن تشغل السيدة هدى محمد الغصن منصب مدير عام دائرة التدريب والتطوير في أرامكو السعودية، وهي أيضا عضو مجلس إدارة فيلا البحرية العالمية المحدودة التابعة لأرامكو، ولهذا هؤلاء الأرامكويات الصغيرات وجدن حيزا من الحلم باتجاه المستقبل حين وثقن أن المرأة في أرامكو تحتل مساحتها ما دامت قادرة على الإنجاز بكفاءة، فانضممن إلى برنامج التأهيل الجامعي لغير الموظفين في أرامكو والمنتهي بالابتعاث الجامعي ثم التوظيف، وتجدهن ممتلئات بالحماس خلال التجول في مركز التدريب والتأهيل، يتقنّ اللغة الإنجليزية بطلاقة، لغة دراستهن بالمركز، وحين سألت بعضهن في أحد المعامل لماذا تدرسن هنا؟! قلن بصوت واحد"لأن أرامكو أتاحت لنا فرصة دراسة تخصصات غير موجودة في الجامعات"، والسؤال الآخر: ماذا ترغبن أن تدرسن؟! إحداهن أجابت "مهندسة كيميائية"، والثانية "مهندسة بترول" أما الأخيرة فقالت "مهندسة كهربائية"، سألتها: لماذا؟ فأجابت "أشعر أن لدي قدرة على الاختراع في هذا المجال وأرامكو وفرت لي الفرصة".
إذن أرامكو لا تبخل على الاستثمار في الكوادر الشابة للمستقبل، لأنها أدركت أن استمرار قوة الشركة يعتمد على صناعة أجيال جديدة مؤهلة من موظفيها وموظفاتها يحلون محل من يتقاعد فيها يوما، ولهذا أطلقت عام 1987 مشروع برنامجها للتأهيل الجامعي لغير الموظفين، وكان خاصا بالطلاب السعوديين، ثم فُتح المجال لالتحاق الطالبات السعوديات عام 2006، وتخرجت أول دفعة من خريجات الثانوية العامة السعوديات عام 2006، وبلغ عدد الطالبات اللاتي انتمين لهذا البرنامج بين (2006 و2010) 319 طالبة، أما عدد الطلاب السعوديين المستفيدين من هذا البرنامج منذ افتتحته أرامكو، فبلغ عددهم 7101 طالب منذ عام 1987 إلى عام 2010، وبحسب ما شرحته الدكتورة إيمان هباس المطيري التي تعمل في منصب الناظر الإداري لتحليل وتخطيط الموارد البشرية في إدارة شؤون الموظفين في أرامكو السعودية حين زار وفد من قادة الرأي والفكر أرامكو، فإن الطلاب والطالبات السعوديين الذين ينضمون لهذا البرنامج يعتبرون من المتميزين والمتفوقين علميا من خريجي المرحلة الثانوية، ولا يتم قبولهم ضمن البرنامج إلا بعد قياس قدراتهم وخضوعهم لاختبارات تثبت إمكاناتهم العلمية وتثبت تأهلهم للعمل في أرامكو بعد تخرجهم، وليس هذا بغريب على أرامكو، فمن يفكر بصناعة التاريخ جيدا يتعامل مع المستقبل بمسؤولية ويبني طاقته ببناء الإنسان، وكما قال رئيس شركة أرامكو خالد الفالح خلال اللقاء به في حديث ودود معنا كزوار وضيوف "الشركة أدركت أن استثمارها النفطي الذي يعتمد عليه الاقتصاد الوطني كمورد من أهم موارد الدخل السعودي، ولأنه كذلك أدركت الشركة أهمية الاستثمار في إنسان الشركة أيضا"، ولهذا اعتمدت أرامكو برامج لتدريب وتطوير مهارات منسوبيها منذ 77 سنة، إلا أن سياستها العامة للتدريب تبلورت في شكل خطة استراتيجية متكاملة عام 1953.
مع قشرة الأرض
أمام شاشات كبيرة وصغيرة على مكاتبهم، ترى خلالها رسومات بيانية وخرائط جيولوجية وألوانا حمراء وبرتقالية وصفراء وخضراء، تجد معها الأرامكويين والأرامكويات يؤدون مهامهم بتفان وانضباط وانشغال تام في كل قسم يداعبون قشرة الأرض بما فيها من نقاط بترول وغاز، وجلّهم من السعوديين، إنهم ليسوا كبعض الذين نراهم في بعض المؤسسات الحكومية ممن يتهربون من العمل أحيانا لحجج ومفتقدين للحماس، فلماذا يختلف نشاط وحب هؤلاء لعملهم عن الآخرين، يقول مدير عام الشؤون العامة ناصر النفيسي عن النظام العملي داخل أرامكو "هناك تقويم مستمر لأداء الموظفين وهو من شأنه أن يساعد الإدارة على فرز المجدين والكفاءات الممتازة من غيرها"، وهذا التقويم بدوره يحرض كل موظف في أرامكو على الإنجاز والعمل، لأنه يعين على حصول المنضبط على ترقية وحوافز ويدفع المتقاعس إلى المنافسة، وبحسب حديث النائب الأعلى لرئيس شركة أرامكو عبدالعزيز الخيال، يبلغ عدد موظفي أرامكو ما يقرب من 54 ألفا، وهم كل عام تقريبا يستوعبون ما يقارب 3 آلاف موظف، وفي سؤال مفاده: كم موظفا تتخلص منه أرامكو في ظل صرامة النظام العملي والتقويم المستمر؟. أجاب "قلة قليلة جدا تكاد لا تُذكر، ولا يكون ذلك إلا بعد إنذارهم وإعطائهم فرصا لتجاوز ذلك"، واللافت في عالم "أرامكو" أنه برغم تفاوت مراتب الأرامكويين الوظيفية ومناصبهم ما بين رئيس ومرؤوس لا تراهم إلا أصدقاء يتبادلون وجهات النظر دون حواجز المناصب النفسية، أو الآراء الشخصية المعلبة التي تعود كثيرون على استخدامها بتعسف في أغلب بيئات العمل بالمجتمع، يقول متعب القحطاني أحد الأرامكويين في العلاقات العامة والإعلام "في عملنا لا يهم من تكون ومن أي منطقة جئت، ما يهم هنا هو احترام الوقت وإنجاز العمل، أما الأمور الشخصية فهي محل احترام مهما اختلفنا معها"، ويكمل بحماس "اعتقاداتك الخاصة أو آراؤك هي حرية شخصية لا يتم التدخل فيها ما دامت لا تمس العمل، ولهذا في أرامكو مختلف الفئات بين الموظفين ولا أحد يفرض على أحد أفكاره الخاصة، والقاسم المشترك هو العمل ومعيار التفاوت هو مستوى الكفاءة".
"الشيبة" الحياة في موت صحراء الربع الخالي
حتما تتساءل.. أثمّة حياة بين هذه الكثبان الرملية الحُمر؟ وأنت عالق في الهواء على بعد ارتفاع آلاف الأقدام منها، لتبدو كموج بحر أحمر يغطي وجه صحراء الربع الخالي، فيما تفصل بينها سبخات تخاصمها الرمال، وحين تُمعن النظر أكثر من نافذة طائرة أرامكو المنطلقة من الدمام إلى حقل الشيبة الواقع على بعد 800 كلم، تتزاحم الأسئلة على مدى ساعة السفر، كيف تبدو الحياة ليلا وسط هذه الصحراء الميّتة؟!.
حتى البدو "عيال الصحراء" يخشون التوغل فيها سوى البقاء في أطرافها! ولكن سريعا ما تتبخر الأسئلة حين يطل حقل الشيبة بين الكثبان الرملية، وكأنه إشارة إلى ميلاد حياة مستحيلة لكن أرامكو صنعتها! فما إن تخرج من الطائرة حتى تبدأ لك علاقة من نوع آخر مع الصحراء حين يلفح هواؤها وجهك، إنه نقي رغم سخونته لكنه يمهد الطريق إلى جوف صحراء لا تعرف عنها سوى أساطير الجن والأقوام المدفونة تحت رمالها عبر آلاف السنين، ولكن سرعان ما تتلاشى تلك الحكايات والأساطير حين بدت وجوه الأرامكويين المبتسمة تستقبلنا كزوار من كتّاب الرأي والفكر، كي يتعرفوا على الذين قبلوا بمغامرة العيش بصحبة الكثبان العملاقة الحُمر بحقل الشيبة، الذي أنشأته أرامكو وطوعت الحياة فيه لهؤلاء الأرامكويين ببناء ما يشبه منتجعا لهم وفرت فيه كامل الخدمات المعيشية والترفيهية لتعينهم على البقاء سعداء في عزلة عن العالم الخارجي سوى عيال الصحراء "البدو".
اللبن مقابل الماء
وبالرغم من ساعات العمل التي تبدأ من السابعة والنصف صباحاً وتمتد لـ 12 ساعة، إلا أن حيويّة مشعّة في وجوههم تراها حين تصادفهم في كل مكان بهذا القفر الموحش الذي بدا فيه "التطعيس" الأكثر ممارسة لصنع التسلية في وقت الفراغ، وبحسب حديث يوسف العبيد أحد الأرامكويين منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهو ممن يعملون في حقل الشيبة منذ 5 سنوات يقول "أحيانا نخرج في وقت الفراغ إلى البدو بجوارنا نتسلى، ونتبادل معهم الاحتياجات نأخذ منهم اللبن ويحصلون منّا على الماء"، سألتُه: ألا يضايقك العيش بعيدا عن المدينة؟ أجابني "أبدا، ساعدني حبي للهدوء على التأقلم هنا"، وهل تشعرون أنكم منقطعون عن العالم وأخباره؟ أجاب مازحا "كل العالم لدينا، نتابع كل شيء حتى هزائم المنتخب في كأس آسيا التي أحزنتنا، ولدينا هنا الإنترنت ووسائل الترفيه ونسمر ليلا ونتحاور في الخيمة المقامة لنا، كما أن الأكل والمعيشة هنا تقدمها لنا أرامكو مجانا دون أن ندفع ريالا واحدا، إلى جانب أن أرامكو تعوض موظفيها بحوافز مادية وزيادات تشجعنا على البقاء، والأجمل من ذلك أختي حليمة أن مديرنا عواد الشمري رغم أنه المدير الأول هنا لكنه صديق وأخ مقرب لجميع الموظفين على اختلاف مراتبهم الوظيفية، ولا يشعرك بالتعالي".
وإن كان يوسف العبيد الأرامكوي منذ سنوات طويلة طبعه ناسب هدوء الصحراء، فالشباب الذين في أكثرهم لم يصلوا إلى الثلاثينات هم دائما يتطلعون إلى الترفيه وشغف المدينة، لكن هؤلاء في هذه الصحراء يؤكدون أن السعوديين الشباب مسؤولون فعلا عن طموحهم وقادرون على تحدي رغباتهم ما داموا يصنعون المستقبل، لهذا تراهم في حقل شيبة ممتلئين بحيوية العمل ومتصالحين جدا مع الصحراء، مثل صالح السبيعي الذي أجاب بابتسامة حين سألته "ألا تضايقك الحياة في الصحراء؟. فقال "أنا أساسا ابن الصحراء ولهذا لم أشعر بأي فرق وأرامكو توفر لنا كل شيء"، أما زميله ماجد الشيباني فقبل أن أتحدث معه وكأنه يريد تأكيد متابعته لتفاصيل العالم خارج الصحراء فأشار إلى معرفته بهويتي ومتابعته لي، ثم سألته "كيف هي الصحراء؟ أجاب برزانة "جميلة، وهادئة" وما برنامجكم اليومي كشباب هنا؟ قال في هدوء "دوامنا 12 ساعة، وثمان ساعات للنوم، وتتبقى لنا 4 ساعات، نشاهد فيها التلفاز أو الإنترنت أو نمارس الرياضة أو نتأمل الصحراء أو التطعيس".
العودة إلى الأرض
حين تخرج من عالم أرامكو تشعر وكأنك تعود لأرض الواقع، وتتذكر جيدا مقولة سقراط الشهيرة "خلق الله لنا أذنين ولسانا واحدا .. لنسمع أكثر مما نقول" هكذا هي سياسة تعامل الأرامكويّين والأرامكويّات وشركتهم التي لا تهتم بثرثرة الإعلانات التجارية عن نفسها مفضلة استبدالها بتبني أعمال خيرية وثقافية تخدم المجتمع وهو ما أكده رئيس الشركة الفالح، بأنهم لا يثرثرون كثيرا عن أنفسهم كبقية الناس، بل يشتغلون بصمت وهدوء بهدف الإتقان، لكنهم يرغمونك على طرح سؤال كبير "هؤلاء السعوديون هم نحنُ .. فلماذا يختلفون عن بقيتنا في المؤسسات الحكومية والخاصة الأخرى؟.. سؤال ربما استطاعت 48 ساعة برفقة الأرامكويين أن تخبرنا بإجابته.