عام 2003 دعيت - ولأسباب لم أفهمها لحد اليوم - للمشاركة في (حوار أوروبي/ إسلامي) نظمته إدارة العلاقات الثقافية بالخارجية الألمانية. عندما وصلت في الصباح الباكر للعاصمة برلين، وجدت رجلا وامرأة في استقبالي بحفاوة صادرت "وعثاء السفر". أقلتني سيارة لفندق قرب المطار مكثت فيه حوالي خمس ساعات، ليستدعوني بعدها، وأمتطي حافلة فارهة، فوجئت أول ما صعدتها بأدونيس جالسا في أول مقعد، ولسبب ما – لم أفهمه أيضا – تجاهلته، ومضيت لمقاعد شاغرة في آخر الحافلة، التي انطلقت ماضية بنا نحو منتجع ضخم وفاره على الحدود البولندية اسمه "قصر نيوهايندبيرغ"، قالوا لنا إنه سيكون مكان الملتقى الحواري على مدى ثلاثة أيام. وصلنا بعد مشوار استغرق زهاء الساعة، وزعونا على غرف فيما يشبه فيلات صغيرة، تمثل فخامة العمارة الأوروبية القروسطية. وبعد استراحة ساعة استدعونا لصالة بهيجة تحفها غيوم أول الربيع، في أجواء هدوء ريفية تخلب الألباب. كان لقاء تعارف وتعريف استمر حوالي ساعتين، قسمونا خلالها لمجموعات، وما أن ادلهم المساء، ومضى الجانب الأوروبي الذي كان في جله ألمانيا وقلة من سويسريين وفرنسيين وسويديين، ما بين أكاديميين وباحثين وناشرين وصحفيين، مضى معهم أيضا المسلمون من غير العرب من جامعات إندونيسية وتركية وإيرانية وهندية وباكستانية، حتى مارسنا نحن العرب عادتنا في السهر، وهنا تجلى أدونيس وكشف عن شخصية غاية في الظرف واللطافة إلى جوار ثلة من مبدعين كسلوى بكر وحنان كساب وابتسام المتوكل والمحامي المصري حافظ أبو سعدة. المهم في اليوم الثاني تمكنا من النهوض مبكرا، لننخرط في البرنامج الذي انطلق من الثامنة صباحا، واستمر حتى السادسة مساء، عبر ورش، ونقاشات، وحوارات وتغيير مجموعات وتنقل بين القاعات في ريف بهيج بعيدا عن ضجيج المدينة. تم كل ذلك في انضباطية عجيبة، كانت تجعلني في كل لحظة أتذكر بؤس فعالياتنا الثقافية ذات الشكل المدرسي المقولب.

كانت المساحة متسعة هناك للحوار والعصف الذهني، الذي أسفر في النهاية عن صوغ أفكار، سرعان ما تبنتها الخارجية الألمانية في شكل عملي مذهل، عم كل العالم الإسلامي شمل دورات تدريبية، وتبادلات ثقافية، وورش عمل، ومعارض، وإنتاج أفلام تسجيلية ووثائقية، وكل ذلك من أجل تحطيم الصورة النمطية في الذهنية الغربية عن العالم الإسلامي والمسلمين في ظل تداعيات تفجيرات نيويورك.

من يومها كلما حضرت فعالية ثقافية أو أمسية إبداعية لدينا، بات الشكل التقليدي لها يمثل إزعاجا ذهنيا لي، لأفكر كثيرا، أن واحدا من أعظم أسباب جمود ورتابة فعالياتنا الثقافية يكمن في عدم اجتراح منظميها أفكارا خلاقة تنتشلها من العادية والقولبة المدرسية.