أمضيت الإجازة القصيرة الأخيرة، في مجرد قراءة وتصنيف آلاف العناوين التي احتشدت لمثلها من آلاف الكتب التي حفل بها الإرث والتراث الإسلامي طيلة هذه القرون الممتدة في الشارع الطويل لمسيرة التاريخ ذاته. تكتشف بمجرد القراءة السطحية لتنوع وائتلاف واختلاف العناوين في شتى المباحث أن الدين العظيم نفسه قد يكون الضحية التلقائية لهذا الكم الهائل من الأدبيات ومن حركة التأليف المدهشة وهي تحوله إلى مؤسسة أكاديمية هائلة، وبالضبط، أريد أن أقول إن هذا الحشد الفكري الهائل حول هذا الدين قد أنسانا جميعا بذرة هذا الدين الأساس لأننا بالفعل انشغلنا بكل ما كتب حوله من بعد البذرة. نحن في كل حياتنا مع هذا الدين العظيم، أسرى للآلاف من بطون وأمهات وتفريعات العناوين الهائلة حول الدين بدلا من النقاء الأصلي البسيط الذي ابتدأ فيه هذا الدين قصته المدهشة في حياة البشرية. وخذ بالمثال والتقريب أن الكتاب الأول في كل تاريخ الإرث الإسلامي لم يكتب إلا في هلال القرن الثاني من بزوغ شمس الإسلام، وأن الفرقة الإسلامية الرسمية الأولى في حياة تاريخ الملل والعقائد والنحل لم تشرق إلا في ذات القرن الثاني من الهجرة.

تكتشف أن حركة التأليف الهائلة التي ابتدأت صناعتها مع مطلع القرن الثالث من الهجرة كانت إما سببا لولادة عشرات الطرائق والمذاهب، أو أنها كانت ـ سببية ـ لهذه الطرائق والمذاهب التي سعت لتبرير ظهورها فانتشرت هذه الحركة الأدبية المكثفة من المخطوطات والكتب. وخذ بالمقاربة الأخرى أن القرن الأول من كامل الهجرة النبوية المباركة لم يشهد أيضا نشأة المصطلح، وكل الذين عاصروا ذلك القرن لم يكتبوا ولم يسمعوا بشيء واحد من عشرات المصطلحات التي نعيشها اليوم، فخير القرون لم نسمع ولم يكتب عن التشيع ولا عن السنة والجماعة.

لم يكن في كل قاموسه الفكري مفردات العقيدة أو السلفية أو الجعفرية أو الصوفية أو غير كل ذلك من مئات المصطلحات والملل التي لن يكفي لفرزها وتصنيفها اليوم أكبر مكتبة اختصاصية. وبكل اختصار فإن هذه الفرقة الهائلة في جسد الأمة ليست بشيء على الإطلاق من سبب في بذرة هذا الدين وإنما بسبب كل ما تلاه في القرون اللاحقة من الأدبيات التي أفرزتها هذه الحركة من تحويل الدين إلى مؤسسة أكاديمية كتبت لها آلاف الكتب وتبارت إليها مئات المدارس.

نحن مثلا، ولله الحمد، لا نختلف كثيرا حول القرآن الكريم شرحا وتفسيرا، ولا حول "الصحاح" من تدوين أحاديث المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكننا في المقابل، عشرات الفرق التي تختلف حد التناقض الحاد حول عشرات الرموز التي ابتدأت مسيرة الكتابة والتأليف وبالتالي، سأعود للمربع الأول فنحن أسرى لاختلافنا حول ما كتب لاحقا، لا ما كان أولا وابتدائيا من البذرة النقية البسيطة التي يفترض أنها لنا وأننا لها، ونحن اليوم بالعنوان الواضح، مذاهب وطرائق مختلفة تتبع بذور القرن الثالث وما كان بعده بدلا من أن نكون ملة واحدة تعود إلى البذرة الأولى كما هو الكتاب المبين والحديث الصحيح.

وخذ بالتقريب النهائي أن القرن الأول الذي لم يشهد تدوين كتاب أو رسم أساس لمخطوطة واحدة لا يقابل إلا عالم اليوم الحديث الذي يشهد فيه العام الواحد، وبالإحصاء، ما يقرب من ولادة 5000 كتاب تنضم إلى هذه المكتبة الهائلة، وبكل تأكيد، فبعد هذه القرون الطويلة من هذا الإرث الإسلامي الطويل، فإن كل ورق مطبوع جديد لن يأتي بشيء جديد ولن يكشف ـ سفرا ـ لم يرد من قبل في هذا الإرث. كل ما ستضيفه كل هذه الحركة المتجددة من ماكينة التأليف الهائلة ومن اختراع العناوين ليس إلا، إما إعادة اختراع ما كتب من قبل واسترجاع ما كان، ونحن عالة على هذا الإرث، وإما إعادة ترسيخ الاختلاف بالاحتشاد لمخترعي الطوائف والملل أو الاختلاف ضدهم في تكريس لبنية الاختلال. ومن الثابت بمكان لمن يتأمل مجرد قراءة آلاف العناوين لوحدها مثلما أتاحت لي التقنية الحديثة في بحر إجازتي القصيرة، أن قضية واحدة فرعية وثانوية قد تستأثر بعشرات العناوين وتسبح في الامتداد من قرون خلت حتى اللحظة. خذ بالمثال أن قضية مثل زواج المتعة في باب الفقه تستأثر وحدها بما لا يقل عن 20 عنوانا وأن الشهر الأخير وحده يحمل فيها عنوانين.

نحن نخطئ تماما في حق هذا الدين العظيم لأننا نحيله إلى جدل فلسفي ونخضعه إلى الرؤى المعرفية المتناقضة للرموز والمذاهب، بينما المصطفى الهادي الكريم كان ينهى عن التدوين وهو الذي شدد على أن هذا الدين متين لنوغل فيه برفق.