قبل عامين ذهبت إلى الكويت فوجدت ابن صاحبنا حسين في قمة أناقته.. مازحته: اليوم أنت عريس يا عبدالرحمن، فأجابني سريعاً: "يا أبو فيصل تو بدري على العرس، لكن عندي لقاء تلفزيوني مباشر على قناة الكويت في برنامج لرجال المستقبل".. سألته وعن ماذا يا أبو حسين؟ قال: لقاء حول حقوق الطفل!
حينها لم تعطل ذاكرتي كذلك عن كثير من البرامج الحوارية الخاصة بالأطفال وبطلاب المدارس تحديداً مثل قبة (منظمة أنموذج الأمم المتحدة) United Nations Model التي تقدمها المدارس الأميركية، وفن (هايكو) المدارس اليابانية، وبرامج مدارس "فاجاكومبو" في فنلندا، وميثاق التعليم السنغافوري لحوار الأطفال.
تربيتنا و(خصوصيتنا) التي يعتريها العيب والممنوع ما زالت متربعة على حبالنا الصوتية والمتحكمة في نغماتها منذ الصغر، والتأتآت الاجتماعية المحوكمة معرفيّاً وسلوكياً! فكم من ثرثارٍ عاجزٍ عن الوصول إلى ما يريد! وكم من كاتبٍ جيد لا يستطيع أن يقدم نطقاً على الملأ ما كتب! وكم منا من يعاني من فهم الآخر أولاً حتى يحاوره آخراً؟ وكم منا من يعاني من مشكلة عند إيصال رغباته للآخرين أو حتى في فهم احتياجاتهم ورغباتهم؟
يوضح ديفيد جويفرمونت عالم النفس الأميركي أثناء عمله مع بعض الأطفال الذين لديهم ضعف في مهارات الاتصال: "أنه في الوقت الذي يعرف عن هؤلاء الثرثرة إلا أنهم يجدون صعوبة في صياغة جمل جيدة في الحديث، وكذلك تنقصهم الاستجابة لمتطلبات الآخرين، وأنه بسبب ضعف مهارات أمثال هؤلاء الأطفال في التخاطب، وقصور مهاراتهم الاجتماعية الأخرى – نجد أن نسبة ما يقرب من 50 % إلى 60 % منهم يُنبذون من أقرانهم اجتماعيًا؛ مما يجعلهم يقومون بارتكاب حماقات سلوكية تتميز بالعدوانية والأنانية ونبذ الآخر.. مما يزيد من مشكلاتهم الاجتماعية".
فالأطفال العاديون يبدؤون بالاتصال مع أقرانهم الذين يعانون من ضعف مهارات التخاطب بالحديث معهم أو عند توجيه أسئلة وبتعليقات ساخرة نحوهم أو ممتعضة منهم، وعليه سنجد فرقاً بينهم في صياغة الحوار وتعليقاته حتى تبعاته، لأن الطفل ذا المهارة الاجتماعية الضعيفة متمركزٌ حول ذاته دائماً، وعلى غرار ذلك هو نفسه سيغدو كبيراً يحاكي بنفس ما تعود عليه في حواره الطفولي نمواً، ومحصلة ذلك السيناريو نجد أن الكثير منا متوقف حتى الآن مع امتداد العمر وسباق الزمن بأصوات ازدادت خشونة فقط نحو (الآخر)..!
جعلني ذلك أفكر في مركز الحوار الوطني وجهوده ومخرجاته التي اختلف عليها الكثير بين مؤيدٍ لملموس وبين نافٍ لم ير سوى ضباب! ولكن أهدافه الإنسانية تزيل ببساطة جبال الأوهام المترسبة في أنفسنا والمتضمنة (معالجة القضايا الوطنية وطرحها من خلال قنوات الحوار الفكري وآلياته، وترسيخ مفهوم الحوار وسلوكياته، وتوسيع المشاركة لأفراد المجتمع وفئاته في الحوار الوطني وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني بما يحقق العدل والمساواة وحرية التعبير في إطار الشريعة الإسلامية...)، ويبقى تفعيلها وملامسة أثرها واقعاً نحتاجه أكثر من أي وقت مضى في زمننا المتسارع نحو الإصلاح والتغيير، ورغمهما تحسب لمركزنا الحواري الوطني أنشطته الأخيرة اهتماماً بقضايا الشباب والتواصل مع مختلف شرائحهم في المملكة، ولكني أرى أيضاً أن فئةً عمرية لبناء الإنسان (مرحلة الطفولة) تنتظر بل تحتاج من مركز الحوار (حواراً) بناءً من أجل تنمية بشرية مستدامة، فمشاكل التربية في هذه المرحلة تحديداً تحتاج إلى إرهاصات وقواعد سليمة يُبنى عليها الطفل مما سيخفف العبء تدرجاً إلى الكبر، فالطفل (السعودي) وبكل أمانة محتاجٌ لتعليمه منذ الصغر لغة حوار وتخاطب وصولاً إلى تنمية ذكائه الاجتماعي والعاطفي، والبدء بمعالجة ما ورثناه لهم أسفاً ليخرجوا من ثقافة الانغلاق بنبذ العنصرية والطائفية البغيضة والتفكير الأجوف، والبدء في التعايش السلمي مع الآخر، ومعالجة العادات السلوكية الخاطئة منذ الصغر لبناء مجتمع إنساني حضاري، ولن يكون ذلك إلا بترسيخ مفهوم الحوار وسلوكياته في المدرسة والمنزل يقابله انتشارٌ أفقي في المجتمع ليصبح أسلوباً للحياة، ومنهجاً للتعامل وإلا فالقطيعة والانكفاء على الذات والحذر والشك والعداء للآخر ستستمر.
أطفالنا محتاجون إلى دعم كبير بمساعدة من مركز الحوار الوطني الذي أعتقد أنه قادر بقيادته وبكفاءات وطننا تنسيقاً للخروج بطرح جميل (يُفعَّل) بأدوات تطبيقية داخل المدارس والمنازل ليأتي اليوم الذي يتحدث فيه أطفالنا بحرية (إنسانية) تكاملية سليمة، وكلنا أمل في تبني هذا المقترح من مستشار خادم الحرمين الشريفين والأمين العام لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني الأستاذ فيصل بن معمر، النائب السابق لوزارة والتربية والتعليم الذي عُرف عنه التفاؤل وتقبل الأفكار البناءة والذي غادر الوزارة كمسؤول تربوي ولكنه سيبقى لإكمال مسيرة البناء والمشاركة ليقدِّم كل إضافة تخدم العملية التربوية للمساهمة في بناء جيل يتطلع الوطن إليه بمستقبل يليق بهما معاً، ولأنها أيضاً مسؤولية وطنية (تكاملية) من قبل كل الجهات الحكومية قبل أن تكون مسؤولية وزارة فقط.. فأفلا يستحقون؟