انتشرت الأصولية الدينية المسيحية في العالم في أطراف المدن، والأرياف، والمناطق الفقيرة. كذلك كان الحال مع الأصولية الدينية في العالم العربي. فهي متواجدة، من خلال تنظيمات دينية واجتماعية وسياسية ولكنها في هذه الحالة تكون قادمة من الأرياف، والمناطق الفقيرة وما يُطلق عليها (العشوائيات). وسبب ذلك، أن انتشار الأصولية، يتم في مناطق الفقراء البسطاء الذين يسعون إلى الإيمان السريع والبسيط، لكي يطمئنوا إلى حل كثير من مشاكلهم الاجتماعية، والمالية الخاصة، ولا يلتفتون كثيراً إلى الأمور السياسية، وألاعيبها، وتغيراتها. ومن يعش في قفص الأصولية يشعر بالطمأنينة والراحة والأمل الكبير في الغد. لذا، نلاحظ أن انتشار وقوة السلفيين، وكذلك الإخوان المسلمين – مصر مثالاً، لا حصراً - في الأرياف، وبين الفلاحين والعمال البسطاء، أكثر مما هي عليه في المدن الكبرى والعواصم، حيث ينتشر التعليم بشكل أكبر، وتتدنى نسبة الفقر والأميّة، عما هي عليه في المدن الكبرى والعواصم.
ولكن قبل الغوص أكثر فأكثر للإجابة عن سؤال: "هل الأصولية سبب فقر العالم العربي؟" دعونا نتعرف على جوانب من الأصولية، التي نعنيها هنا، ونتحدث عنها اليوم.
ما هي الأصولية؟
يقول بعض المفكرين العرب المعاصرين، ومنهم هاشم صالح، إن الأصولية نظام مغلق على ذاته، بالأسوار الشائكة. فالرأي المخالف ممنوع، وينبغي استئصاله بالقوة، إذا لزم الأمر. وهذا ما فعله الكاثوليك مع البروتستانت الفرنسيين، في القرن السابع عشر. "وهذا ما فعلوه أيضاً مع المفكرين والعلماء، الذين أرادوا الخروج من سجن الأصولية الضيق، والتفكير بحرية." ("معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا"، ص 123). وبهذا المعنى، فإن الأصولية سجنٌ، أو قفصٌ من حديد منيع. وتعتقد الأصولية، أنها وحدها هي التي تملك الحقيقة المطلقة. فقد كان الكاثوليك الأصوليون، يعتبرون أنفسهم هم الدين الوحيد الحقيقي، وما عداه فهو هرطقات، وزندقات.
رأي آخر لفيلسوف مصري:
وللفيلسوف المصري المعاصر مراد وهبة رأي آخر في الأصولية، كما قال في كتابه (الأصولية والعَلْمانية)، مؤكداً حقيقة أولى ومهمة، وهي أن "التاريخ يتحرك من المستقبل، وليس من الماضي". ويلفت مراد وهبة النظر، بخصوص الحقيقة المطلقة، التي تعتبر أساساً من أسس الأيديولوجية الأصولية، التي هي مجال نقد سلبي من قبل الليبراليين والعَلْمانيين، الذين لا يؤمنون بالحقائق المطلقة، بقدر ما يؤمنون بالحقائق النسبية. ولكن مراد وهبة يؤكد، أن الإنسان – منذ نشأته – "ينشد الحقيقة المطلقة، بحكم أن العقل الإنساني، ينزع بطبيعته نحو توحيد المعرفة الإنسانية. وهو من أجل ذلك يتجول، في كل مجال من مجالات المعرفة. ونزوع العقل نحو التوحيد، هو في الوقت ذاته، نزوع نحو المطلق. والإنسان ينشد الحقيقة المطلقة بحكم إحساسه بعدم السكينة، في هذا الكون المجهول" (ص 13). ولعل هذا السبب – عدم الإحساس بالسكينة في هذا الكون المجهول – يُضاف إلى الأسباب السابقة التي تؤدي إلى انتشار الأصولية بين طبقات الناس البسطاء، الخائفين من المجهول دوماً، والكارهين للتأويل، حيث لا إجماع في التأويل، ولا تكفير للمؤوِل. ولهذا نقد ابن رشد أبا حامد الغزالي وهاجمه، عندما كفَّر الغزالي الفلاسفة الإسلاميين كالفارابي وابن سينا، وغيرهما.
الحقيقة بين المطلق والنسبي:
في عام 450 ق. م كتب بروتاجوراس (زعيم الفكر السوفسطائي اليوناني) كتاب (الحقيقة)، وقال منذ أكثر من عشرين قرناً إن "الإنسان مقياس الأشياء جميعاً." وهذا يعني أن الحقيقة نسبية بنسبية الإنسان. وكان سقراط يعتقد، أن حكمته تقوم في علمه بجهله، بينما غيره جاهل يدَّعي العلم.
ودون استعراض للمعاني المدرسية والعامة للأصولية، التي أصبحت معروفة ومفهومة، لدى عامة القراء، ورددها كثير من الكتّاب والباحثين، في كتاباتهم عن الأصولية، فإن المهم أن سمات الأصولية في بداية القرن العشرين – كما عرضها مراد وهبة - تبلورت على النحو التالي، بعد مخاض طويل، استمر حوالي عشرين قرناً:
1- هناك حلول قادرة على إحراز نصر في المشاكل المختلفة. والفشل مرده إلى "مؤامرات الأشرار"، وليس إلى قصور في الرؤية الأصولية.
2- لا وطنية للمؤسسات السياسية الرأسمالية.
3- لا تنازل عن المبادئ الأساسية. وكل تنازل هو "خيانة للحق".
4- لا تأويل لأي نص ديني.
علاقة الأصولية بالفقر:
يؤكد هاشم صالح في كتابه المذكور (معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا) أنه لا يمكننا "إهمال العلاقة الكائنة بين الأصولية والنظام الاقتصادي الفقير والهش، الذي ساد العصور الوسطى في أوروبا" ( ص125)، وكذلك كان الحال في العالم العربي والإسلامي، وهو ما لم يقله هاشم صالح. وقال هاشم صالح متابعاً، دون مقارنة ذلك بما يجري في العالم العربي، وعلاقة الأصولية بالفقر، ومناسبة الظروف الاقتصادية العربية، لانتشار الأصولية كما نرى الآن: "إن الأصولية، كانت تتناسب مع الظروف الاقتصادية السائدة آنذاك، وهي التي ساهمت في تشكيل العقليات الجماعية. فالجوع أجبر الناس (الفقراء) على التمسك بمذهب الصرامة في التقشف، والذي يتناسب مع تقشف حياتهم ذاتها".