في التحليل السياسي، ينبغي التمييز بين القراءة الدقيقة للحدث، وبين الموقف الأخلاقي من تداعياته، رغم صعوبة الفصل بين القراءة والموقف. هذه القراءة السريعة، تتميز بين قراءتنا لأسباب المواقف الرسمية المتباينة من الحصار على غزة، وبين الموقف منه. الحصار المفروض على غزة أمر مرفوض بمعايير الأخلاق والالتزام الإنساني، والقومي. ووظيفة التحليل، والقراءة لن تكون خارج سياق الأمرين. ذلك أن الالتزام يظل عدميا إن لم يسعفه الوعي، والآخر يصبح ترفا فكريا، إن لم يكن الهم الإنساني عاملا محفزا وراء خوض غماره.
ربطنا في كثير من أحاديثنا السابقة بين المشروع الصهيوني، وبين المشروع الغربي الذي يراد فرضه على المنطقة، والهادف إلى صياغة خارطة سياسة جديدة، يحل فيها البعد الاستراتيجي الجيوسياسي بديلا عن الجغرافيا الطبيعية. وسيكون من نتائج ذلك خلق ظروف ينتفي فيها النظام العربي، الذي شيد بعد الحرب العالمية الثانية، والمعبر عنه بجامعة الدول العربية، ومعاهدات عسكرية وأمن قومي جماعي، واتفاقيات اقتصادية وثقافية بين العرب. والبديل نظام شرق أوسطي، يكون الكيان الصهيوني عموده الفقري، وترتبط به البلدان العربية، بصيغة الالتحاق والتبعية، وليس بصيغة الشراكة والتكافؤ والندية.
هناك موقف إسرائيلي واضح، يصر على إبقاء الحصار على غزة، وهناك مواقف عربية رسمية يمكن وصفها في أحسن الأحوال بالمتراخية تجاه الحصار، مع قناعتنا الراسخة، باختلاف الدوافع بين الموقفين.
يهدف الصهاينة، من حصارهم إلى أن يرغم الوضع الإنساني الكارثي للقطاع، شعب غزة على الالتحاق مجددا بمصر، إن بصيغة البقاء تحت إدارة مصرية، كما كان الوضع قبل حرب يونيو عام 1967م، أو بصيغة الاندماج الكامل. وهذا ما كشفته تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين في الأيام الأخيرة، واحتجت عليه الخارجية المصرية. إن ذلك من وجهة النظر الإسرائيلية سينهي فكرة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة إلى الأبد.
بالنسبة للرؤية المصرية الرسمية، وإلى حد ما الحكومة الأردنية، فإن بقاء غزة منتعشة اقتصاديا، في ظل سيطرة حماس، لن يؤدي مطلقا إلى تحقيق الوحدة الفلسطينية. إن ذلك سيكون من شأنه تعطيل المبادرة العربية للسلام، ويمنع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، لأن تحقيقها سيكون مستحيلا في ظل وجود كيانين فلسطينيين، أحدهما في الضفة، بقيادة "أبو مازن"، والثاني في القطاع بقيادة حركة حماس. إن مصر والأردن، لديهما خشية مشروعة، من استمرار وجود كيانين فلسطينيين، فمصر تتحسب من أي مشروع يربط القطاع بإدارتها، وحكومة الأردن، ترى في ذلك، كابوس الوطن البديل، الذي يهدد الوجود الأردني بالغرق، وربما الفناء.
وإذا فالرغبة تبدو مشتركة، في إضعاف حركة حماس وإن اختلفت أسباب الغرماء، على أنه ينبغي ألا يذهب الظن بأحد، في أن ما طرحناه بحق دول الطوق، يعني اتهاما للعرب بالتناغم مع سياسة الكيان الصهيوني في تجويع الشعب الفلسطيني، فذلك هو آخر ما يخطر بالبال. ما نهدف إلى توضيحه، هو أن بعض دول الطوق، تطمح إلى فرض ظروف تجبر حماس على القبول بالوحدة الفلسطينية، بين القطاع والضفة.
من هذه القراءة يمكننا فهم الدوافع التي جعلت الصهاينة يرتكبون جريمتهم، بحق المتضامنين مع القطاع. لكنهم بسلوكهم هذا ارتكبوا حماقة كبيرة، جعلتهم في مواجهة العالم بأسره. وطرحت بحدة، قضية الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني المظلوم، وجعلت الصهاينة، يتلقون صفعة من مجلس الأمن الدولي، الذي كان الفيتو الأمريكي، في السابق، عصا غليظة تستخدم باستمرار للحيلولة دون إدانة جرائم جيش الاحتلال.
في كشف الحساب، يمكن القول إن الكيان العبري، بفعلته الشنيعة، هو أكبر الخاسرين، ومعه لكن بنسب أقل بكثير دول الطوق المتضررة من استمرار الانشقاق الفلسطيني. أما الرابحون فهم كثر. في مقدمتهم الحكومة التركية، التي سجلت نقاطا عدة. فقد استطاعت إضعاف المؤسسة العسكرية، المؤتمنة على صيانة الإرث الأتاتوركي، وعلمانية الدولة. هذه المؤسسة، التي يمكن أن تطيح بحكومة إردوغان، كما أطاحت بأربكان في السابق. وقد تناقلت الأنباء، قبل فترة وجيزة، خبر إلقاء القبض على قادة متنفذين في المؤسسة العسكرية، بتهمة التحضير لانقلاب ضد الحكومة المنتخبة، إن التأييد الشعبي العارم، الذي حظي به موقف حكومة إوردغان سيلجم المؤسسة العسكرية، ويمنح قوة للحكومة الحالية. كما حققت تركيا اختراقات جيدة في البنية النفسية العربية، المحملة بنظرة سلبية إزاء الدور التركي مع الغرب، وبشكل خاص، تجاه الأحلاف العسكرية، التي شيدت في الخمسينيات من القرن المنصرم، بهدف مواجهة الغليان الوطني، وأيضا تجاه العلاقات التركية – الإسرائيلية. لقد غسلت قوافل التضامن، كثيرا مما علق في العقل العربي، تجاه المواقف التركية السابقة. وأصبحت شيئا من الماضي. كما نقلت التطورات الأخيرة، الموقف التركي، من أوربة تركيا، وإبعادها عن المحيط الإسلامي رغم فشلها في محاولاتها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. إن الانتقال نحو العرب والمسلمين سيمنح تركيا قدرات جديدة على المناورة، وسيضيف إلى قوتها ثقلا كبيرا في العالمين العربي والإسلامي.
هناك أيضا، القضية الفلسطينية، التي كادت أن تحيد، لتختزل إلى حقوق أقلية من السكان، وتنسى أبعادها الحضارية، وموقعها في محاولات العرب للانعتاق. وكان ظلم ذوي القربى، أكثر مضاضة "من جرح الحسام". لقد أعادت الهجمة الوحشية التي تعرض لها المتضامنون مع شعب فلسطين، إلى الواجهة هذه القضية، وطرحت أمام الضمير الإنساني قضية الحصار بقوة. وتحول هذا المطلب من محافل حقوق الإنسان، إلى مطلب عام، سوف تتضح معالمه في الأيام القادمة.
وقد مثلت قوافل التضامن انتصارا للضمير الإنساني، ومنحت ثقلا للتضامن الأممي في سبيل نصرة المظلومين، الواقعين تحت الاحتلال لأكثر من أربعة عقود، في وقت أصبح فيه الاستعمار، من مخلفات الماضي... وسيكون من ذلك، الدفع بمسيرة الكفاح الفلسطيني، نحو تحقيق الوحدة الوطنية والاستقلال، والمجتمع الحر الكريم.