إذا كنت من المستخدمين الدائمين لشبكة الإنترنت، فلربما لاحظت ما حصل على أشهر مواقع الويب يوم الأربعاء الماضي (18 يناير 2012)، فأكبر موسوعة علمية على الشبكة (ويكبيديا) قد توقفت عن العمل يومها واستبدلت صفحتها الرئيسة البيضاء بأخرى سوداء، ومحرك البحث (غوغل) قد قام بتغطية علامته الشهيرة بلوح أسود كبير وحين تضغط عليه سيأخذك لصفحة تطلب منك التوقيع على عريضة احتجاج. والأمر نفسه تكرر مع ما يقارب السبعة آلاف موقع إنترنت. هؤلاء المحتجون كانوا يظهرون معارضتهم الشديدة لمشروع قانون جديد متعلق بحرية الشبكة العنكبوتية كان سيطرح للتصويت في اليوم ذاته في مجلس النواب الأمريكي يعرف اختصاراً ب (SOPA)، وأيضاً لمسودة قانون مماثل سابق له في مجلس الشيوخ الأمريكي يعرف ب(PIPA). فماذا ستعني هذه القوانين فيما أقرت بالنسبة لأمريكا وللعالم؟

كلمة SOPA هي اختصار ل (Stop Online Piracy Act) أي قانون إيقاف القرصنة الإلكترونية، وهو مشروع قانون تقدم به النائب الجمهوري (لامار سميث) في أكتوبر 2011، ليتمكن من توسيع صلاحيات الحكومة الأمريكية في محاربة القرصنة الإلكترونية للأفكار والسلع والخدمات والمنتجات الفكرية الإبداعية للأمريكيين، والتي تقوم بها مواقع إلكترونية أجنبية. فالهدف منه ملاحقة من يسرقون ملكيات الأمريكيين الفكرية في الخارج. وهذا القانون يطلب من شركات ومواقع أمريكية القيام بعملية الفلترة أو المراقبة تحت طائلة المساءلة القانونية والغرامة والسجن في حالة الالتزام وعلى رأسهم: محركات البحث الأمريكية، مزودو خدمة الإنترنت ISP، وخدمات الدفع الالكتروني (فيزا وماستركارد وباي بال)، بالإضافة إلى شبكات الدعاية والإعلان الالكترونية.

فمحركات البحث عليها القيام بتصفية نتائجها بحيث تتجاهل تماماً الشركات التي يرى القانون الأمريكي بأنها تتعدى على الحقوق الفكرية للأمريكيين، ومزودات الخدمة في أمريكا مطلوب منها أن تمنع المستخدم من الوصول لهذا الموقع بأكمله. أما شركات التعاملات المالية فلن تسمح للمستخدمين بالشراء من هذه المتاجر الرقمية، وكذلك شركات الدعاية والإعلان الأمريكية يمنع عليها التعامل مع هذه المواقع "المارقة" بأي شكل.

مؤيدو القانون يرونه السبيل الوحيد لحماية حقوق الملكيات الفكرية الوطنية في العصر الرقمي حيث باتت "مجانية" المحتوى تمثل حقاً مكتسباً للمستخدمين متجاهلة حقوق المؤلف أو المنتج أو المبدع، مما يضر بالاقتصاد ويهدد الوظائف والأعمال. أما المعارضون فيرون بأن هذا القانون يهدد حرية التعبير بشكل عام، وسيمكن الحكومة من أن تقوم بعمل حجب لنطاقات كاملة صادرة من دول أو مؤسسات لمجرد أن صفحة واحدة من موقع واحد انتهكت ما يرونه ملكية فكرية لأمريكيين. والمكتبات الرقمية على وجه الخصوص بسبب نوعية محتوياتها ستكون مهددة بهذا القانون الصارم. وإذا أضفنا لهذا مبدأ المعاملة بالمثل، فستقوم دول أخرى بفرض قوانين مشابهة تمنع الوصول للمواقع الأمريكية للأسباب ذاتها، وتبدأ حرب الشبكات (بدلاً من حرب النجوم!) بين الدول، والمحصلة ستكون مزيداً من الرقابة العالمية لمحتوى الإنترنت تفقده أهم مزاياه وهي الحرية والمشاركة والتواصل بين البشر بلا حواجز.

وبين المؤيدين والمعارضين تبرز فئة ثالثة تعتقد بأنه بالفعل لا بد من عمل شيء لحماية الحقوق الفكرية والملكية، وأن فكرة المجانية المطلقة للمحتوى ليست بالضرورة صائبة، وقد أدت هذه الفكرة إلى أرباح خيالية لشركات الدعاية على المواقع التي تتيح محتوى مجانيا، ولكنها لم تقدم أي مقابل مجز للأفراد الذين يقومون بصناعة هذا المحتوى، إلا أن مسودتي القانونين المقترحين في مجلسي الشيوخ والنواب لا تخدمان هذا الهدف. وهؤلاء يركزون خطابهم على أن من يتقدمون بمشاريع القوانين والقرارات هذه هم أبعد الناس فهماً لطبيعة الإنترنت، وأن الخطوات الاحتجاجية التي قامت بها ويكبيديا وغوغل وغيرهما أثارت الاهتمام المطلوب وعرقلت حتى طرح المشروع للتصويت إلى أن يتم الوصول إلى صيغة توافقية وبذلك حققت نصراً آنياً لكنه لا يقدم حلولاً للمشكلات على المدى الطويل. وبالتالي فمن الأجدى أن تقوم شبكات الإنترنت العملاقة هذه، وهم الأدرى بعالم الويب، بالتقدم بمسودة لقانون بديل يحفظ حقوق الملكيات الفكرية والأدبية دون أن يهدد حرية التعبير.

مشروع القانون بصيغته الحالية تأثيره المباشر سيكون على مستخدم الشبكة داخل أمريكا، فلم إذاً كانت له أصداء قوية حتى خارج القارة الأمريكية؟

الأسباب عديدة، منها ما تقدم ذكره من الخوف من حرب رقابية متبادلة، أو وهو الأخطر أن يعطي حجة للحكومات عموماً في أن تخترع قوانين مشابهة تحد من حرية هذا الوسط الحر نسبياً حتى الآن. فإذا كانت أمريكا ذاتها تحجب وتراقب وتصفي المواقع التي لا تروقها فما الذي سيمنع دولاً أخرى ديموقراطية وغير ديمقراطية من فعل ذلك؟

بالمقابل فهناك -خارج أمريكا- من يرى أن إقرار هكذا قوانين له فوائد على المدى البعيد للعالم بشكل عام، وإن تسبب في فوضى عارمة وتدمير بعض المواقع والأعمال على الشبكة على المدى القصير. فهذا المشروع ينبه العالم إلى أن المسيطر بلا منازع الآن على الشبكة ومحتواها هو أمريكا بحكومتها وشركاتها، وهذا بدوره أمر خطير فهذا الوسط العالمي البالغ الأهمية يستطيع أن يختفي من الوجود بإمرة بلد واحد! وبالتالي سيدفع الدول الأخرى لمحاولة كسر الهيمنة. وأيضاً ستخلق ضرورة لإنشاء بدائل منافسة غير أمريكية.

الرقابة على الإنترنت ليست جديدة، وتمارس في أكثر من دولة في العالم لأسباب دينية أو أخلاقية أو أمنية، فأحيانا لا تكون الرقابة شيئاً سيئاً، والقانون الأمريكي لن يخلق شيئاً من العدم، ولكنه سيقوم بذلك على مستوى أكبر مما هو قائم حالياً، ولأسباب لا علاقة لها بالأمن أو الدين أو الأخلاق. ومشكلته أنه صيغ بطريقة سيئة، فبدلاً من أن يركز على حماية الملكيات الفكرية والحقوق الفردية للجميع ومحاربة القرصنة ومعاقبة الذين يجنون أموالاً طائلة نتيجة سرقة مجهودات الآخرين، إذا به يركز على تقسيم العالم إلى فسطاطين: أمريكي وغير أمريكي، محلي وأجنبي، وصمم بطريقة تجعل تطبيقه يؤذي الكثير من الأشخاص والمؤسسات الذين لم ولن يسرقوا مجهودات أحد أو يجنوا من ورائها شيئاً.