يعترض بعض الناس على وجود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتحفظون على ضرورتها وأهميتها، حتى إن كثيراً من الذين يتمظهرون بالتمدن والتطور يتزينون بالتحفظ على وجود الهيئة، بل ويوردون ما يسوغ في نظرهم إغلاقها باعتبار أن الأدوار التقليدية التي تقوم بها الهيئة صارت من مهام أجهزة الأمن وبوليس الآداب في الدول الحديثة، وتسمع منهم في المجلس قصصاً كثيرة يختلط فيها الواقع بالخيال، وتتشابك الإشاعة مع الحقيقة، وتسمع حكايات تبدأ صغيرة ثم تكبر وتتورم وتنتفخ وتسد الأفق ولا تجد من المتحدث موثقاً من علم إلا ما ينسب إلى وكالة "قالوا"، ويقابل هذا المد والهذر الكلامي من بعض الناس ضعفا وعجزا ملحوظا من جهاز الهيئة في درء ما يروى عنها من أقاويل وما ينسج حولها من قصص، ولا تخلو أو تتنزه بعض الروايات المصحوبة بحالة من التشفي من بعض الحقيقة أحياناً أو كل الحقيقة أحياناً أخرى، ويسهم ضعف الهيئة وعدم مبادرتها في إصدار بيان توضيحي يصاحب أي عملية خلافية أو خطأ لأحد أفرادها في تضخم الإشاعات وتداول القصص، وجعل الهيئة وحكاياتها وتجاوزات أفرادها فاكهة المجالس والبيوت السعودية.
ويلاحظ أن تقدم الوسائل التقنية وبروز الوسائط المتعددة قد أتاح للناس فرصة الترصد والتقصد من خلال تسجيل بعض الوقائع بواسطة "اليوتيوب" ونشره على الفور للملأ، بما يجعل هذا التسجيل توثيقاً وحجة على المستهدف أو المترصد، وقد وقع في أسر وحبائل تقنية اليوتيوب كمثال على ذلك بعض المسؤولين الذين يشنع بهم الناس لمجرد انفعالهم وقتياً – ربما - بلفظة نابية أو تهويشة يد أو تكشيرة وجه، لكن الناس لا تثق ولا تعتد إلا بتلك اللحظة العابرة، وإذا كان كثير من المسؤولين سفراء أو وزراء قد دفعوا ثمناًًًً لنزوة الغضب العابرة فإن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتصرفات منسوبيها صارت هدفاً ومرصداًًًً لكثير من المتحفظين أو الكارهين، وكما أمعن بعض منسوبي الهيئة خلال عقود طويلة في تسقط أخطاء وعيوب الناس وتعنيفهم ومراقبة سلوكياتهم فقد جاء التطور التقني الذي يمكن له أن يرقب ويوثق سلوك بعض أفراد الهيئة خلال أداء مهامهم بما قد يكون مدعاة لانضباطهم، ومعرفتهم أن يدهم وصلاحياتهم لا يصح أن تكون مطلقة في الشك والاتهام والإدانة.
عندما كنت في المرحلة الابتدائية مروراً بالمتوسطة وحتى الثانوية كان عمي الشيخ عبدالمحسن – أطال الله في عمره – يعمل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالملز، وكان أفراد الهيئة في ذلك الحين يطلق عليهم "النواب"، والنواب هم أعضاء الهيئة الذين يجوبون الأسواق ويذكرون أصحاب المتاجر بحلول وقت الصلاة، ويدعونهم – بكل تلطف وسماحة – إلى التوجه للصلاة.
وما زلت أتذكر عمي عبدالمحسن وهو يتحدث عن عودة (عبده) البائع في المكتبة الذي كان سافر إلى اليمن ويحكي لنا بعض قصصه وما يبثه من أشواق.. ثم يتحدث عن وعكة بائع المطبق والمعصوب في شارع الظهران.. ويسرد قصة زواج (عبدالرقيب) بائع الأشمغة والغتر.. فكيف أحاط عمي بكل هذه الحكايات لولا أن "النواب" في ذلك الحين كانوا على نحو ألين وألطف من الآن، صحيح أن الرياض كانت أصغر ومحلاتها أقل وزحمتها أخف لكن "نواب" الهيئة في ذلك الزمان كانوا يباشرون عملهم وينتقلون من مكان إلى آخر مشياً على الأقدام، وإذا بعدت الشقة والمسافة استخدم عمي سيارة الأجرة.
جدير بالذكر أن معاكسة الفتيات وترويج العرق موجودة في ذلك الوقت كما هي موجودة في هذا الوقت، لكن مع اختلاف الكم بحجم اتساع المدن وتزايد عدد السكان. والأجدر بالذكر أن إطالة الشعر والغزل وترويج الخمر وجدت في عهود الخلافة الراشدة، فقد تمت حلاقة شعر الشاعر نصر بن حجاج في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخشي أن يكون لنجوميته الشعرية وشعره الغزير المسبل دور في فتنة النساء على نحو استدعى حلقه، ثم نفاه بعد ذلك إلى البصرة.. ولأن هذه الأمور كانت موجودة في عهد الخلفاء الراشدين، فمن باب أولى أن توجد في عهد عمي عبدالمحسن، وكما هو الحال في عهدي، وأن تستمر في عهد الذين سيأتون من بعدنا.. هكذا هي الدنيا، وهكذا هم البشر نزاعون للخير والشر، يحتدم الصراع بينهما إلى أن تقوم الساعة. لكن هذا لا يعني بحال أن يستغنى عن جهاز الهيئة، فهو القطاع المعني بضبط ومراقبة وترشيد سلوك المارقين، وهو العلامة الفارقة لبلادنا التي آلت على نفسها أن ترعى الأخلاق وتصون أعراض الناس وتكرم الشريعة عن تطاول السفهاء. ويحق للناس أن يستبشروا بالتغيير الذي نرجو أن يكون مصاحباً لتعيين الرئيس الجديد لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ عبداللطيف آل الشيخ، الذي لخص رؤيته لعمل الهيئة في شعار مكثف وموجز ومعبر في الكلمات المختصرة التالية: الأمر بالمعروف "بمعروف" والنهي عن المنكر بلا "منكر" واللبيب بالإشارة يفهم.