كان من أهم الميزات التي تميزت بها دعوة الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- أنها كانت "واقعية" عالجت إشكالات حاضرة، تساوقت مع طبيعة الظروف التاريخية والدينية في الجزيرة العربية. لم تكن نظرة المجدد للدعوة السلفية دعوة غارقة في النظرية المتعالية عن الواقع، وإنما هي تغوص في عمق المشكل الديني، حالة الضعف التي طرأت على الجزيرة، انتشار البدع والخرافات، توجه الناس إلى غير الله في الدعاء والاستعانة، التشتت وتحكيم "سواليف" الجاهلية، غياب الالتزام بالقيم العقدية. وكانت هذه الإشكالات الواقعية التي عايشها الشيخ محمد هي التي شكلت حدوده الدعوية ومراوحته الفكرية والسياسية لتحقيق هدف خاص نجح فيه نجاحا كبيراً، وبذل في سبيل ذلك كل ما يمكن أن ينجح مشروعه من حيث "التأسيس العلمي"، و"الدعوة والدعاة"، و"التعاون السياسي"، حتى اكتمل له ما يريد، ونجحت دعوته وحقق أهدافه على أكمل وجه..
القارئ لدعوة الشيخ محمد - رحمه الله- يدرك أن واقعيته طغت على ما يراه أولويا في زمانه، ولقد غاب في أجندته الفكرية البعد "المدني والحضاري"، وذلك لظروف وطبيعة النشأة والتكوين للدعوة، وطبيعة السياق الحضاري الذي لم ينفتح بعد على "الدولة المدنية" وصورتها الحاضرة. وكان في واقعيته يركز على "الأولويات" ويؤجل ما سواها، وهذه ليست من خصائص دعوته فقط، بل كل دعوات المجددين والمصلحين كانت ترتكز على قضايا الواقع الكبرى، وتركز كل جهودهم إليها، فأبو بكر رضي الله عنه كانت قضية "الردة" أولى الأولويات بالنسبة له، وأحمد بن حنبل جعل قضية "الوافد الفكري" الذي أفرز القول بخلق القرآن من أولوياته، وابن تيمية كان واقعه مشكلا من خليط من القضايا الكبرى التي أسهم في حلها وتأصيل قضاياها والحجاج حولها، ولذلك كانوا في هذا أئمة هدى، ودعاة رشاد، استفاد من جاء بعدهم من مواقفهم العظيمة وأنصفهم حتى خصومهم.
إننا نعيش في طور الدولة الثالثة التي هي من إفرازات ذلك التحالف التاريخي بين دعوة المصلحين ابن سعود وابن عبدالوهاب. ولئن كان هذا الطور أصبح امتداداً من بابه الفكري، إلا أنه جاء في سياق حضاري مختلف، وتكتلات سياسية جديدة، وموازين قوى تحتاج إلى إعادة ترتيب أولويات الإصلاح والنهضة، مع الانطلاق من الركيزة الأساسية "التوحيد" الذي كان شعاراً لتلك الدول، إلا أن التجديد ليس في بعث محددات النشأة الأولى فقط، بل في استلهام روح المشكلات الكبرى، والتوجه إلى طرح الحلول المناسبة وفق رؤية إسلامية تجديدية. فلو كان ابن عبدالوهاب أو ابن تيمية يعيشان بين أظهرنا لكانت قضايا الواقع من أهم مهماتهما الحاضرة، لأنهما يدركان أن الدعوة لا تنفصل عن واقعها، وأن التجديد ينبعث من الأزمات والتحديات، وأن شمولية الإسلام تقتضي أن تتكون من الفكر/ والحضارة، وان إصلاح الأديان مع أهميته الكبيرة إلا أن إصلاح المعاش لا يقل أهمية، وهذا هو التفرد الذي جاء الإسلام به. ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي".
إن أربعة من أحفاد الإمام المجدد قد تسنموا مناصب مهمة، هي مجال كبير لبعث روح التجديد من جديد، فأول هؤلاء سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للإفتاء والبحوث العلمية، وبعده التجديدي يتمحور حول صناعة الفتوى وكيفيتها في ظروف تشابكت فيه الآراء وتعددت الاجتهادات وتواصلت الحضارات، مما يعني عالمية الرسالة الإسلامية، وتضافر جهود العلماء المسلمين في كل مكان، وهذا يحتاج إلى صياغة برامج تجمع أهل التخصصات المختلفة لتخرج الفتوى ناجزة ومكتملة الشروط، وهذا مشروع بنائي وتكاملي بين مجالين مختلفين: الدنيوي والديني حتى يكون العلم والفتوى يحققان حلولاً للمشكلات المعاصرة للإنسان المعاصر.
والثاني هو معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ الذي يضطلع بقيادة وزارة الشؤون الإسلامية، وعليه تبعة كبيرة في تجديد الفكر والخطاب الإسلامي ليكون نقياً ومتوافقاً مع تحديات العصر، موائماً بين روح النص وظروف الواقع واختلاف التيارات، مراعياً في ذلك الخطاب العولمي الذي قارب بين الثقافات، فهو مجال تجديدي عظيم، فكيف نصنع من خطابنا الديني خطاب جمع لا تفريق، وخطاب نهضة لا تخلف، ليكون مظلة كبرى للآخرين.
أما الثالث، فهو معالي الشيخ عبدالله بن محمد بن إبراهيم، رئيس مجلس الشورى، وهو منصب له رمزيته الكبرى في طور جديد من الشكل السياسي الذي يتطلع إليه الجميع، ومجال حيوي للتجديد الذي يوائم بين محددات الرؤية الإسلامية السياسية، وبين صنوف النظم الحديثة. فالكل يترقب أن يكون مجلس الشورى السعودي المثال السياسي الجامع بين الأصالة والمعاصرة، الذي يحقق تطلعات المواطنين في تحقيق كل ما يرجونه، ويكون المجلس امتدادا للرؤية السياسية الحكيمة لملوك الدولة السعودية والذين اتخذوا القرآن والسنة مرجعية لهم في السياسة، وهي بلا شك روح العدل وتحقيق العدالة والحكم بالقسطاس المستقيم.
أما الرابع فهو معالي الشيخ عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ، الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعله التجديدي لابد أن يكون في إطار التجديد في شأن الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال تقنيات العصر وظروفه وتغيراته، وإزالة الصورة النمطية العالقة في أذهان الناس حول هذا الجهاز ليكون مثالا قابلا للتعميم في كل مكان، لأن أحكام الدين الإسلامي ليست صالحة فقط للمسلمين، بل كل حكم عملي في شأن الدين والدنيا هو صالح للعولمة إذا أحسنا توظيفه والعناية به وربطه بالمقاصد الشرعية التي شرع من خلالها.
إن الجميع يتشوف إلى هؤلاء العلماء، المسؤولين الأربعة أن يربطوا الماضي بالحاضر، فهم أثر المجدد وأبناؤه، ويترقبون منهم أن يحييوا سيرته حية شاهدة في الأرض، وأن يكونوا خير خلف لخير سلف، وأن يحققوا الآمال التي يعقدها الولاة الذين حازوا ثقتهم في أن يكونوا علامات فارقة في التجديد والبعث لروح الدعوة وقيم الديانة، على خطى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.. سائلا الله أن يوفقهم ويسددهم لما فيه صلاح البلاد والعباد.