في المحاضرة التي ألقاها معالي وزير العمل قبل شهر ونصف أشار إلى وجود بيانات تم إدخالها لموقع "حافز" تحمل أسماء موتى. وأشار أيضاً إلى وجود بيانات تمت تعبئتها بواسطة موظفين في الدولة على رأس العمل ويطمعون في الفوز بمكافأة "حافز". كلنا يعلم أن من شروط "حافز" أن يكون المتقدم عاطلا عن العمل وأنه حي يرزق. لكن كيف تجرأ البعض على تعبئة البيانات والتوقيع على صحتها رغم التزوير الواضح؟ كيف ترعرعت لدينا مثل هذه الثقافة التي دفعت الناس إلى هذه الجرأة في الغش؟ ما بدأت به هنا ليس إلا مجرد مثال فاضح، غير أن هناك الكثير من الممارسات التي يتم فيها التزوير دون وجود أي رادع.

سألت معالي الوزير في ختام تلك الأمسية إن كانت الوزارة تنوي مقاضاة هؤلاء المزورين؟ فقال إن البيانات موجودة والتوقيع عليها في موقع حافز الإلكتروني يدين الشخص المزور، لكنه توقف عن الإشارة إلى أي ملاحقة قانونية.

هنا يأتي دور وزارة الداخلية ومركز المعلومات الوطني التابع لها. فهل سيتم رفع الدعاوى القضائية على هؤلاء المواطنين؟ أنا بالطبع أتمنى ذلك ليس تشفياً أو رغبة في إلحاق الأذى بهؤلاء؛ ولكن لتأسيس مجتمع يدرك عقوبة الغش ويتجنب التزوير، وينظر إلى هذه الممارسات بأنها خطأ يعاقب عليه القانون.

مثل هذه الحالات لا تحتاج إلى فرق للتحري والبحث لأنها مكشوفة أمام الملأ وكل ما تحتاجه هو قرار فقط. ما هي البيانات الأخرى التي قد يزورها المواطن في أي استمارة أو وثيقة رسمية؟ لا أعلم، وهذا ما يجب أن نبحث عنه ونتصدى لانتشاره.

في زاوية أخرى نشرت صحيفة الرياض في صفحتها الاقتصادية ليوم السبت الماضي خبراً يفيد بالكشف عن تحويل عامل أجنبي في مطعم لمبلغ 800 مليون ريال. وأشارت الصحيفة إلى أن هذا الكشف قد يساعد في التصدي لظاهرة الاقتصاد الخفي والأموال التي تدار بواسطته. وقد قدرت الصحيفة إجمالي هذا الاقتصاد بمبلغ يتجاوز 228 مليار ريال سنوياً. المقصود بالاقتصاد الخفي هو العمل التجاري الذي لا يتطلب وجود مؤسسة تجارية أو شركة مساهمة تخضع بياناتها للتدقيق والمراجعة والزكاة.. أموال ربما تأتي من تعاملات مشبوهة لا يوجد لها أي توثيق رسمي. أما تفسير وجود عامل مطعم وراء هذه العملية فأغلب الظن أن هذا العامل تم استخدام معلوماته فقط للتحويل مقابل مكافأة بسيطة تهرباً من صاحب المال الرئيسي الذي لا يريد كشف هويته. هنا نتساءل أيضاً أين الرقابة الصارمة لمتابعة هذه التجاوزات؟ لو كنا نعمل بآلية الاقتصاد الضريبي الذي تتم مراقبته بدقة لأن عملياته مرتبطة بدخل الدولة من الضريبة؛ لأصبحت هذه الممارسات جريمة كبرى، لأنها تعتبر تهرباً من دفع الضرائب. لكن هذا لا يمنع من متابعتها في اقتصادنا الريعي لأنها تخفي وراءها مشاكل لا يعلمها إلا الله. فمن يدري ما نوع التجارة التي أتت بمثل هذه الأموال؟ قد تكون مخدرات أو أسلحة أو غسيل أموال أو أموال من ممارسات محرمة؟ هذا وحده يفترض أن يشكل هاجساً أمنياً لا يمكن إغفاله.

هناك بالطبع تزوير في عدم كشف تعارض المصالح، إذ قد يأتي مقدم خدمة لجهة حكومية يديرها أخ أو أب لصاحب هذه المؤسسة دون الإفصاح عن ذلك.. هناك تزوير في حالات الحضور والغياب في دوام الحكومة أو القطاع الخاص.. هناك تزوير في حالات الغياب واستصدار تقارير طبية مزورة تعفي الموظف من عقوبة الغياب عن العمل.. هناك تزوير في عدد السعوديين في المؤسسات من خلال التوظيف الوهمي.. وإن نسينا فلا يمكن أن ننسى الشهادات العلمية المزورة التي ظهرت رائحتها واشتد النقاش حولها حتى وصل إلى مجلس الشورى السعودي. يوجد تزوير في بعض الصفقات العقارية طمعاً في رفع الأسعار.. يوجد تستر في العديد من المؤسسات التجارية التي يكتفي صاحب المؤسسة بقبول مبلغ مالي شهري مقابل السجل التجاري ولا يعلم عن أي شيء يدور في مؤسسته.. طبعاً تزوير الأختام والتواقيع حدث ولا حرج.. البعض أشار إلى تزوير في استخدام بطاقات التأمين الصحي كما سمعت، وكلنا أيضاً عانى من وجود أسماء مستعارة في مواقع إلكترونية مهمتها النيل من الناس والتعرض لهم بأبشع التهم متخفياً عن الأنظار دون خوف من ملاحقة قانونية.

كل ما تقدم إضافة إلى الأسباب التي من أجلها تم تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد يشير إلى ضرورة تكاتف كل أجهزة الدولة المعنية بمراقبة ما يجري من أخطاء بعضها قد يكون مدمراً.

سبق أن اقترحت نصب الكمائن لبعض العمليات التي يتطلب كشفها وجود المنتفعين والقبض عليهم في الجرم المشهود. والواقع أن هذه ليست مني، فكلنا تابع الحالات البحثية التي قامت بها (إف بي آي) لمتابعة بعض المفسدين في وول ستريت قبل عامين. هذه الإجراءات مهمة جداً لزرع هيبة القانون والخوف من العقوبة. هناك مخبرون قد يتم زرعهم في بعض البنوك وهناك مخبرون قد يتم زرعهم في شركات مقاولات أو في إدارات مشاريع في أي وزارة أو جهة مستفيدة من المشاريع الضخمة.. لن نتمكن من القضاء على هذه الظواهر السلبية إذا لم نبادر بإجراءات جديدة واكتفينا بدلاً من ذلك بانتظار وصول مكالمة على خط هاتفي من متعاون.

مسؤولية هذا الجيل هي زرع القيم الفاضلة من خلال المؤسسات وهيبة القانون. لن تغفر لنا أجيال الغد إذا لم نبادر اليوم بمسؤولياتنا الأخلاقية والقانونية للتصدي لمثل هذه الظواهر المشينة.. أقول ذلك دون أن أهضم حقوق المخلصين من أبناء الوطن ممن يقف في وجه هذه الممارسات. هناك بالطبع الكثير من المخلصين الشرفاء الذين ضربوا أروع الأمثلة في التصدي للغش والتزوير. واجبنا حقيقة هو مكافأة مثل هؤلاء وتقديرهم وإبرازهم ومنحهم الأوسمة التي يستحقونها من أعلى قيادات البلاد نظير إخلاصهم والتزامهم بهذه المبادئ السامية.

حفظ الله بلادنا من الممارسات الخاطئة وأعاننا على بناء المجتمع المنشود اللائق بأهل هذه الأرض وقيم مؤسسيها من الآباء والأجداد.