كثيراً ما أستأنس بالجلوس على شاطئ البحر في جدة أرقب شروق شمس يوم جديد، أجلس أمام البحر في حوار حميمي تتسارع فيه كلمات أفكاري وهمومي وتطلعاتي، أغوص في أعماق نفسي، أبحث عن معانٍ، عن مشاعر، عن أفكار، وأنا كذلك في خضم التأمل بين يدي السكون، أستمع وأستلذ بتغريد عصافير الصباح التي قامت بعزف أنشودة بكورها، وكأنها تقول.. لا معنى للحياة بدون لحن جميل وصوت عذب، إن العمل بدون رقة وتناغم لا يأتي منتجاً ولا فاعلية له، وما يأتي حاثاً وداعماً للحن عصافيري الجميلة، حفيف أشجار من حولنا، يعلو وينخفض، بحسب دعابات نسيم الهواء الذي يأبى إلا أن يكون مشاركاً في هذا الحوار الصباحي، ومن خلف الجميع تداعبني أشعة الشمس كمداعبة طفل من خلف السحب يريني عينيه مرة ثم يخفيهما، فيريني وجهه في أخرى ثم يخفيه سريعاً مع ابتسامة خفيفة أستطيع أن ألحظها، ثم يقتنع بالقدوم إلي ومجالستي، لكن لخجله يعاود الاختباء مرة أخرى خلف السحب التي تمتلئ بها أجواء جدة هذه الأيام، أمضي ويمضي الوقت بي في خلوتي هذه، وكثيراً ما أحتضن صديقي كتابي أكمل راوية أو أُنهي فصلاً أو أدون فكرة، أو أداعب مجلة، لا يعكر صفو هذا التبتل إلا مشاهد من مخلفات ورقية ومهملات تركها أصحابها في الليلة السابقة. أتألم، أقول هل من الفطرة السليمة أن يعبث الإنسان بكل هذا الجمال؟ ألا يتقزز المرء حين يكون سبباً في العبث برونق المكان؟ أيتناسب هذا مع صفحات البحر الهادئة؟ أم مع نسمات العليل المدِللة؟ أم مع عطر العصافير الذي تبثه لحناً جميلاً في الأرجاء؟ إنه النشاز في موسيقى الكائنات هذه. إن إحساسنا بالجمال والتلذذ به أمر ضعيف ضامر بسبب –للأسف- ضمور مبادئ الفكر الجمالي العربي/ الإسلامي الذي أفدت بالإطلاع على أهم مبادئه ومعالمه في كتاب وجدته منزوياً في أحد معارض الكتب عنوانه (البنية الجمالية في الفكر العربي- الإسلامي) للدكتور سعد الدين كليب، إذ أن هذا الفكر ما يزال يعاني من الإهمال، وما زلنا نعاني من الجهل به، ومن روعة ما قرأت فيه أنه لا يمكن للذات أن تلتذ بجمال ما حولها إلا إذا كانت تتسم بالجمال، مما يعني أن الجمال الموضوعي يؤكد الجمال الذاتي ويعمقه، إن الحيز الجمالي أمام الإنسان واسع وَسَاعَة الوجود، فالإنسان هو الوحيد الذي يلتذ بكل ما هو جميل وجليل في هذا الوجود سواء كان بالطبيعة المتنوعة، أم بالمعقولات والمعنويات، وهذا الغنى في الحيز الجمالي يؤهل الإنسان لأن يتعمق في الموجودات من جهة، وفي ذاته من جهة أخرى. وهو ما يفرض عليه مسؤولية ولا يمكن لغيره أن ينهض بها، وهي الحفاظ على الجمال في هذا العالم، وهذه المسؤولية هي إحدى مسؤوليات الإنسان الكامل.
وبالنسبة للذة الجمالية المتعلقة بالفن، فيروى عن ابن الخطيب أن أبا علي الروذبادي سئل عن حقيقة السماع فقال:( المنطق الذي ظهر الحقُ به، ونطق به في الأزل، صار كامناً في نفوس الخلق حين خاطبهم الحق بقوله:"ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا" (الأعراف 172) فبقيت حلاوة الخطاب في الأسرار، فما كان في القلوب من رقة ووجد وحقيقة فهو من تلك الحلاوة التي خاطب بها في النشء الأول) وهذا ما يفسر ميل النفس الإنسانية الوجودي-الطبيعي إلى الألحان والأنغام كما يذكر الدكتور سعد الدين الذي ضرب صفحاً عن الكتب والأبحاث التي تناولت "السماع" أو الموسيقى والغناء، في الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وأقطابه، ذلك أن هذا الفقه قد عالج السماع من منظور التحليل والتحريم، ولم يعالجه من منظور الالتذاذ الفني-الجمالي. وهو ما يجعله خارج هذا الإطار، على الرغم من كثرة تناوله ومعالجته للسماع. ومن هنا نفهم دفاع الفلاسفة عن الموسيقى التي رأوا أن اقترانها بالملاهي لا ينبغي أن يؤدي إلى رفضها أو تحريمها. فالموسيقى لا علاقة لها بذلك، على الرغم من استخدامها في الملاهي.
يقول الفارابي في ذلك:(ولما كان الناس قد حسبوا أن الراحة واللعب هما السعادة، راحوا يستنكرون الأشياء المُتعبِة، مما أدى بهم إلى طلب اللعب في الأقاويل الشعرية وبالتالي في الألحان..لكي تصبح هذه الأخيرة مرذولة عند أهل الخير، لأن أهل الخير نظروا إليها كما هي كائنة الآن)، بل إن هناك أسباباً كما يذكر الأستاذ الدكتورمحمد عمارة في عدد من كتبه وفي بحث قديم نشره في مجلة العربي عام 2000 أحدثت لغطاً، فجعلت الغناء عند البعض حراما بإطلاق، وأخرجته من الحلال المباح في ذاته، والذي تعرض له الحرمة أو الكراهة أو الندب أو الوجوب بسبب ما يعرض له من المقاصد والملابسات. إذ كثيراً ما يتم التركيز في هذه الفتاوى على المبالغات الفجة في فنون الإثارة الرخيصة والتي تبث صباح مساء باسم الفن، وعلى ارتباط الموسيقى بالمجون والفجور، وهذا يرفضه الذوق السليم فضلاً عن الشرع القويم! وهذا ما جعل أحد كبار الفقهاء كابن حزم يقرر أنه ليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا في معقولهما من القياس والاستدلال، ما يقتضي تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات.
وبهذا المعنى نستطيع أن نضع الموسيقى في وضعها الطبيعي كمنشط دنيوي، وإبداع فني إنساني لا يختلف عن تغريد العصافير في شيء! فما هي إلا أصوات طبيعية تم نظمها في صورة معينة لتعطي لحناً مميزاً لذيذاً، فهل تغريد العصافير محرم؟ وبهذا المعنى نفهم كيف تم إدخال الموسيقى في أساليب علاجية كثيرة تضيق بها مساحة هذا المقال، قال الفارابي في كتابه الموسيقى، مبدياً معايير الجمال فيها :( الموسيقى تقوي المزاج، وتهذب الأخلاق، وتثبت العاطفة، وتنمي الروح، إنها مفيدة للصحة الجسمية).
وأدعو القارئ الكريم أن يستمتع بقراءة مقال (الموسيقى واللغة: جماليات العلاقة) لعبدالباقي يوسف في المجلة العربية، عدد رقم 418 أكتوبر 2011، ومما جاء فيه قول أحد الكتاب (الموسيقى حكمة عجزت النفس عن إظهارها في الألفاظ المركبة، فأظهرتها في الأصوات البسيطة، فلما أدركتها عشقتها، فاسمعوا من النفس حديثها. الصوت الحسن والنغم الصحيح يجري في الجسم ويسري في العروق، فيصفو له الدم، وتنقاد له النفس، ويرتاح له القلب، وتهتز له الجوارح، وتخف الحركات). وعلينا ألا نستغرب إذا كانت الموسيقى بالنسبة لصاحب "أعظم رحلة في تاريخ البشرية" الرحالة المغربي ابن بطوطة بمنزلة النفَس الذي يدب في جسده فهو متى رأى آلة الطرب، أياً كان نوعها، اقتفى أثرها لأنه يرى أنها طريق مؤدية إلى السعادة والهناء والوفاق حتماً. أختم بأن "السعادة القصوى التي يسعى إليها الفكر العربي-الإسلامي هي في حقيقتها سعادة جمالية!".