بكل التقدير والاحترام أرحب بالوزراء الذين انتهت فترة خدمتهم لوطنهم من خلال كرسي الوزارة أو كراسي المسؤولية، والذين أسهموا بقدراتهم وإمكاناتهم وخبرتهم الطويلة قبل توليهم كراسي المسؤولية وخلال توليهم لمسؤولياتهم؛ في بناء هذا الصرح الوطني الذي نفتخر به. اختلفنا معهم أحيانا وانتقدناهم كوزراء أو نواب أو رؤساء مؤسسات عامة، وكان الانتقاد لبعض القرارات والخطط والسياسات، وذلك إيمانا بأن أساس الانتقاد هو البحث عن المصلحة العامة، والتي هي هدف لهم أيضا، ولم يكن الانتقاد شخصيا ولم يستهدف به شخص بعينه.

والحقيقة التي لابد أن نعترف بها جميعا أن صناع القرار في بعض المواقف تحكمهم ظروف معينة وليس المطلوب معرفتها دائما، وإنما العديد من القرارات التي انتقدناها كانت لها ظروفها.

إن ما يدفعني اليوم للترحيب بالوزراء المتقاعدين هو قناعتي بأن هذه الخبرات الطويلة في خدمة بعض القطاعات المتخصصة في الدولة جديرة بالتقدير والاحترام وجديرة بالاستفادة منها في المجتمع الذي نعيش فيه. وأجزم بأن بعض الوزراء المتقاعدين كانوا أكثر شعبية وفائدة للمجتمع بعد خروجهم من مناصبهم الوزارية، وأكبر مثال على ذلك المرحوم، بإذن الله، معالي الدكتور محمد عبده يماني، الوزير الذي لن ننساه ولن ينساه المجتمع، فكان أكثر الرجال خدمة للمجتمع في مختلف المجالات العلمية والاجتماعية والإنسانية، وكم من نماذج من الوزراء والسفراء الذين تقاعدوا أثروا المجتمع بوجودهم الفكري. ويخطئ من يعتقد أن تقاعد الوزراء أو كبار المسؤولين هو لانتهاء صلاحيتهم أو نتيجة غلطات ارتكبوها, وإنما هي سنة الحياة، والتغيير دائما هو مطلب المجتمع، له إيجابياته على جميع الأطراف، فمسؤولية الوظيفة عظيمة وثقيلة لا يعلمها إلا من يمتطي كرسي المسؤولية بأمانة. ومن حق المسؤولين السابقين أن يستمتعوا بجزء من حياتهم المتبقية مع أسرهم وأهلهم وذويهم، ومن حق المجتمع وعامة الناس أن يستفيدوا من خبرة وفكر هذه المجموعة، فوجود الوزراء المتقاعدين في المنتديات العامة وفي المؤتمرات والندوات كمحاضرين وباحثين ومناقشين، أجزم بأنه سوف يثري النقاش والحوار، وعلى وجه الخصوص عندما يكونون مجردين من قيود الوظيفة وحساسيتها.

نعم، نحن نريد الفكر والخبرة ولا نريد الكرسي وبروتوكولاته، ولقد سعدت الأسبوع الماضي وأنا أشارك في حفل قران ابن صديقنا معالي الأستاذ إياد مدني، سعدت برؤيتي مجموعة من الوزراء المتقاعدين عن الوظيفة حديثا وكانوا بالفعل نجوم الحفل. كانوا متواضعين تواضع الكبار، خفيفي الظل وكأن حملا ثقيلا قد رفع عن أكتافهم، وقد رحب بهم الحضور أيما ترحيب وسعدوا بمشاركتهم سعادة كبيرة، كما شاركت بالاحتفالات التي أقامها أخي الشيخ صالح كامل لبعض الوزراء المتقاعدين واستمعت لحوار متميز من بعضهم لم أسمعه من قبل.. كان حوارا ينم عن فكر وثقافة متميزة.

إن شريحة كبيرة من مثقفي المجتمع ترحب كل الترحيب بهذا الفكر المتميز، وعلى وجه الخصوص في الجامعات والمنتديات الأدبية والاقتصادية، وفي مجال النشر العلمي والمشاركة في الكتابة الصحفية، ولا سيما أن بعضهم كانوا كتابا متميزين قبل توزيرهم.

إن من يعتقد أن المجتمع لا يتقبل المتقاعدين من الوزراء يكون مخطئا، بل إن من يعرف قيمتهم يحرص عليهم وعلى وجودهم والاستفادة من خبرتهم.. إن تواري بعض الوزراء عن الأضواء وعن المجتمع بغير عذر هو خطيئة في حق المجتمع، فهم مرحب بهم، وجامعاتنا الحكومية والخاصة مطالبة باستقطابهم للاستفادة من خبراتهم بمحاضرات ومشاركات علمية وأدبية، وعلى القائمين على المؤتمرات ألا يغيروا رأيهم في بعض الوزراء بسبب تقاعدهم، فالمؤتمرات للخبراء وليست لأصحاب الكراسي الوزارية، وعلى الوزراء الجدد الحفاظ على إنجازات السابقين والعمل على تطويرها وليس هدمها أو التقليل من شأنها.

إن تجربة الدول المتقدمة أو الصناعية تعتبر تجربة متميزة في الاستعانة بالخبرات الدولية، إذ تبحث عنهم من جميع أنحاء العالم وتدفع لهم مكافآت عالية. وفي بعض الحالات النادرة يقدم لذوي الخبرات المتخصصة الجنسية بدون شروط ولا قيود في مقابل التدريس في بعض الجامعات الدولية أو العمل ضمن فريق استشاري أو بحثي متخصص.

وكم من الوزراء وكبار المسؤولين في أوروبا وأميركا امتدت فترة الاستفادة من خبراتهم حتى الوقت الحاضر، وأكبر مثال على ذلك الرئيس كارتر الذي تجاوز الثمانين من عمره ولا يزال يحمل مسؤولية بعض المهام الدولية. ونحن في العالم النامي والفقير نرمي خبراتنا السابقة بالحجارة وبالاتهامات الباطلة ولا نرحم مقامهم وعلمهم وخبرتهم.

فأهلا بضيوف المجتمع الأجلاء، مقدرين انشغالاتكم السابقة، ولن نقبل غيابكم في المرحلة القادمة.