ووري بعد عصر أمس في مقبرة المعلاة بمكة المكرمة جثمان أحد أشهر أعلام الثقافة السعودية الناقد والكاتب عبدالله عبدالجبار؛ الذي ينظر إليه بوصفه مؤسس حركة النقد في المملكة، عطفاً على كتابه الشهير "التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية" الذي صدر عام 1959، واعتبر أول كتاب سعودي يلتزم قواعد المنهجية، وعد مرجعاً أساسياً ومهماً لغالبية الدراسات النظرية في مجال النقد الأدبي. وكان قد سبقه بكتاب آخر بالاشتراك مع الناقد الشهير عبدالمنعم خفاجي بعنوان "قصة الأدب في الحجاز" عام 1958.
وفي تكوينه الفكري يذكر أن عبد الجبار غادر المملكة عام 1936 للدراسة في القاهرة وكان على رأس طلاب البعثة السعودية الثانية لينتظم في كلية دار العلوم، في جامعة فؤاد الأول، ومنها نال شهادة الليسانس في تخصص اللغة العربية والدراسات الإسلامية. ويصفه من رافقه في تلك المرحلة في مصر، بأنه كان منضبطاً وشغوفاً بالتعلم منكباً على تحصيل العلم، أكثر مما يتوقع من أمثاله من الدارسين، وكان لديه رغبة جامحة بالبقاء في مصر لتحصيل المزيد من العلم، خاصة وقد تعرف على أدبائها الكبار وانخرط معهم في جمعية الأدب الحديث، لكن برقية من نائب الملك على الحجاز آنذاك فيصل بن عبد العزيز استدعته ليتسلم منصب مدير البعثات السعودية؛ فآثر العودة لخدمة وطنه على البقاء في مصر، مع شدة حرصه على النهل من معارفها مما يعني أنه قدم تضحية كبيرة في حينها، لكنه سرعان ما عاد إلى مصر التي أحبها، ثم ينخرط في النشاط الثقافي، ويلتقي المثقفين المصريين في الصالونات الثقافية حتى انتهى به المطاف إلى تعيينه وكيلاً لرابطة الأدب الحديث.
حين اندلعت الثورة المصرية 1952 استمالت عبدالله عبد الجبار الأفكار القومية، وأخذ يلقي محاضراته الأدبية هناك حين التحق بمعهد الدراسات العربية العالية على الطلاب العرب بروح قومية، وهي المحاضرات التي جمعها فيما بعد وصدرت تحت عنوان " التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية" وفيه دعا إلى التضامن العربي.
تلقى عبدالجبار صدمة لم تكن بحسبانه حين تم اعتقاله في العهد الناصري، بعد هزيمة عام 1967 وسجن لمدة عشرة أشهر، وحين خرج أدرك أن الشعارات القومية لم تكن بالصورة التي يتمناها، وعلى الرغم من اعتذار الرئيس عبدالناصر له شخصياً على فترة اعتقاله فضل الانتقال إلى لندن حيث عاش هناك بلا موارد مادية كافية حياة متقشفة، فحول منزله إلى مدرسة يعلم فيها أبناء الجاليات لغتهم العربية والدين والأدب، وحين زار الملك فهد بن عبد العزيز لندن في تلك الفترة كلفه بتأسيس أول مدرسة عربية في بريطانيا، وأصبح مديراً لها، وهي موجودة حتى اليوم باسم "أكاديمية الملك فهد". عاد عبد الجبار إلى المملكة عام 1978وكانت شهرته قد عمت الوسط الثقافي، وعين مستشاراً في جامعة الملك عبد العزيز، وما إن أمضى عاماً حتى قدم استقالته مفضلاً العزلة في منزله بجدة والتي كان يعقد فيها أسبوعياً جلسة ثقافية. وبعد تقدمه في العمر فضل ذووه انتقاله إلى مكة المكرمة حيث يقيمون هناك، وظل بينهم حتى لقي وجه ربه صبيحة أمس السبت 7 مايو 2011 وصلي على جثمانه في الحرم المكي الشريف.