من المفاهيم الشائعة للإدارة المالية في أي جهة حكومية، ارتباط مفهومها بالإجراءات المالية والمحاسبية فقط، أي أن عمل الإدارة المالية يتمثل في تسجيل الإيرادات والنفقات في الدفاتر، والقيام بإعداد أوامر الصرف والتحصيل وأذون التسوية وصرف المستخلصات وإعداد الحسابات الختامية.
وقد تسرّب المفهوم السابق إلى الإدارات العليا في كثير من الجهات الحكومية حيث لا يطالب المسؤولون الإدارات المالية بوظائف أو معلومات أكثر من الإجراءات المحاسبية المعتادة، بل إنه في بعض الجهات لا تطالب الإدارة العليا بأي معلومات مالية من الإدارات المالية، ويقتصر الاطلاع على مسؤولي الشؤون الإدارية والمالية فحسب، وهذا يعطي انطباعاً غير إيجابي عن أداء الإدارات المالية في الجهات الحكومية وعن أداء الإدارة المالية للدولة ككل.
صحيح أن النظام المحاسبي يعد جزءاً مهماً من وظائف الإدارة المالية، إلا أنه لا يمثل جميع عمليات وأنشطة الإدارة، وبالتالي فإن هناك وظائف أخرى مهمة تم إهمالها بالرغم من أنها تمثل الوظائف الرئيسية للإدارة ومن أهمهما: التخطيط المالي وتحليل البيانات والمعلومات المالية ودراستها، بالإضافة إلى وظيفة التنظيم و الرقابة والمتابعة.
قد يقول قائل: "إن الإجراءات المؤسسية غير المناسبة والضعف في النظام المحاسبي الحالي ونظام ميزانية البنود التي ترتكز على المدخلات بدل التركيز على المخرجات تؤدي جميعها إلى تقويض إمكانية تحقيق الأهداف المرجوة من السياسات الحكومية، وتعيق تحقيق الأهداف المرسومة لصالح المواطنين، وجميع هذه العوامل هي التي أدت إلى ضعف الإدارة المالية وعدم الاعتماد على أعمالها سوى الإجرائية فقط".
وهذا القول في مجمله صحيح، ولكن هذا لا يعني أن لا تقوم الإدارة المالية بجميع أعمالها على الشكل المطلوب، فعلى سبيل المثال من المهام الرئيسية للإدارة القيام بإعداد مشروع الميزانية (الموازنة) وذلك بالتعاون والتنسيق مع الإدارات الأخرى في الجهة الحكومية، وهذه الوظيفة تتعلق بشكل مباشر بالتخطيط المالي، والواقع في عملية التخطيط هذه أن يتم إعداد الموازنة بدون أسس ومعايير علمية واضحة وإنما يتم التقدير بناءً على مؤشرات وتقديرات قديمة أو باجتهادات شخصية بحتة؛ والدليل على ذلك إجراء المناقلات بين بنود الميزانية عند تنفيذها دون وجود مبررات واضحة، بالإضافة إلى اختلال الأولويات والأهمية النسبية لكثير من البنود، فمثلاً كيف يتم وضع مشروع يتعلق بالبنية التحتية بأهمية أقل، ومشروع يتعلق ببناء مرفق أو حديقة بأهمية أعلى؟ وكيف يتم النقل من بند لمشروع حيوي إلى بنود مصاريف الأثاث أو المصاريف السفرية؟ وكيف نفسّر الصرف العشوائي في نهاية كل سنة مالية؟ ومن هو المسؤول عن ذلك؟
وليس هذا فحسب، بل إن بعض الجهات الحكومية لا تستشير إداراتها على الإطلاق عند تقدير الموازنة!، وهذا ما قصدته بالتحديد عن غياب وظيفة التخطيط المالي في الإدارات المالية.
أما بالنسبة لوظيفة التحليل المالي، فهناك ضعف واضح في كثير من الإدارات المالية، بسبب افتقارها إلى أدوات وأساليب التحليل وغياب المؤشرات المالية، وكما ذكرت آنفاً فليس هناك حرص من قبل المسؤولين في الإدارات العليا على التقارير المالية بشكل عام وبالتالي لا تحرص الإدارات المالية على إجراء هذا التحليل، فمثلاً ما هي نسب مؤشرات الصرف من الميزانية في كل شهر؟ وأي من البنود تتركز فيها نسب الصرف ولماذا؟ وهل يتم مقارنة النسب بالأعوام أو الأشهر الماضية ويتم تحديد الاختلافات وأسبابها؟ ما هي نسب المناقلات بين بنود الميزانية ولماذا؟ وهل يتم تحليل ومقارنة الحسابات الختامية لآخر ثلاث سنوات مالية مثلاً؟ جميع الأسئلة السابقة تمثل تحليلاً مالياً بسيطاً جداً، تم طرحها للتوضيح فقط، حيث توجد أدوات تحليل أخرى معقدة ومتطورة جداً للتقارير المالية.
أما بخصوص وظيفة التنظيم والرقابة فتركت هذه الوظيفة للأجهزة الرقابية مثل ديوان المراقبة، ووزارة المالية، والمشكلة هنا تتمثل في أن نوعية هذه الرقابة تتعلق بالإجراءات المستندية وتهمل الوظائف الأخرى للإدارة المالية، علماً بأن بعض الجهات الحكومية لديها قسم خاص بالتدقيق المستندي قبل الصرف، وبعض الجهات التي لديها وحدة للمراجعة الداخلية تقوم بالتدقيق المستندي بعد الصرف وعليه فإن التنظيم الإداري الداخلي للإدارة المالية لا يخضع للرقابة سواء من داخل الجهة نفسها أو من خارجها.
والجدير بالذكر أن مسؤولية التنظيم والرقابة هي من مسؤوليات الإدارة المالية نفسها في المقام الأول، فهي مسؤولة عن توزيع المهام والصلاحيات بين الموظفين ومسؤولة عن تطبيق الهيكل التنظيمي المعتمد لها، ومسؤولة عن الإجراءات الرقابية داخل الإدارة، ومسؤولة عن إعداد التقارير المالية والحسابات، ومسؤولة عن جودة الأعمال والأنشطة المالية أيضاً.
أعلم أن هناك عوامل وقيودا أخرى تؤثر على كفاءة الإدارة المالية في أي جهة حكومية، كما أن طبيعة وأنشطة هذه الإدارة تختلف من جهة حكومية إلى أخرى، ولكن من الضروري جداً التركيز على الوظائف الأساسية للإدارة (التخطيط، التحليل، التنظيم والمتابعة)، والتي أكدت عليها الأنظمة والتعليمات في المملكة، فعند تصفح أي دليل تنظيمي لأي وزارة حكومية فسنجد أن هذه المهام تمثل الاختصاصات الرئيسية للإدارة المالية.
ومن الضروري أيضاً أن يتم تقييم الإدارات المالية في الجهات الحكومية من قبل الأجهزة الرقابية للتحقق من مدى التزامها بالأنظمة والتعليمات المالية النافذة، ومن خلال هذا التقييم يمكن استجلاء صورة شاملة عن فعالية الإدارة المالية للدولة ككل، وخاصةً عند دراسة وتحليل الحساب الختامي للدولة بصفة عامة ومقارنته بنتائج هذا التقييم.
حيث تعتبر الدراسة التحليلية المتعمقة للحساب الختامي للدولة والتحقق من دقة وشمولية ما يظهر به من معلومات وبيانات من أهم المجالات التي يمكن من خلالها تقييم جوانب الإدارة المالية للدولة، والوقوف على مدى فعاليتها وتقديم مرئيات وتوصيات في هذا الشأن للمراجع العليا والسلطة التشريعية والتي تستفيد منها في عملية التخطيط التنموي واتخاذ القرارات الإستراتيجية المهمة.