الفكر قوة تاريخية، مقولة تحمل معنى التلاقح والترابط والتفاعل بين الفكر والبيئة التي ينبثق عنها. ولأن الحديث في جانب منه يتناول البعد التاريخي للفكر، فإن ذلك يعني بداهة ارتباطه بقانون الحركة. فهو إذاً خاضع للتغير والتحول وللتعاقب. إن الفكر في حركته، هو في نهاية المطاف استجابة لما يجري من حوله. واليقظة العربية، كمنظومة من الأفكار، وكاستراتيجيات سياسية، ليست خارج هذا السياق.
مهمة الفكر، هو أن يقدم إجابات واقعية وموضوعية على تحديات نواجهها في هذه اللحظة. وهو إن تثبت على معطياته وآرائه التي انطلق منها، دونما تحسب وتفاعل مع التحولات الكونية التي يعايشها، فإنه يصبح متخشبا وعدميا وساكنا، ولن يكون بمقدوره أن يصبح حيا بإعادة تركيب منظومة مفاهيمه وأفكاره.
هذه المقدمة، تبدو لازمة، ولا غنى عنها، لوعي ما جرى من تحولات دراماتيكية في الواقع العربي، خلال العام الذي انقضى، فقد تفاجأ الجميع بما حدث. وليس من تعليل واقع وعلمي لذلك، سوى عجز الأدوات والصياغات المستخدمة في التحليل والقراءة للواقع العربي، عن تقديم أجوبة صحيحة لهذا الواقع، وبالتالي عدم القدرة على الإيتاء برؤية استشرافية لمستقبل هذه المنطقة.
ما يهدف له هذا الحديث، هو نتناول الحاضر، والوقوف عند هذا المعطف من التاريخ، حيث نعايش أحداثا كبرى، غير مسبوقة. تسقط أنظمة سياسية وتنهار كيانات وطنية، وتتسلم السلطة في تونس ومصر وليبيا، قوى سياسية معارضة، كانت حتى الأمس القريب تعيش في المنافي والمعتقلات. ولأن بوصلتنا لفهم ما يجري، هو متابعة التاريخ في حركته، فإن ذلك يعني التسليم بأن النتائج التي نشهدها الآن ليست معزولة عن مقدماتها. ومقدماتها راسخة في تطلع العرب، منذ أكثر من قرن ليكون لأقدامهم موضع في الإمساك بزمام مقاديرهم، وصناعة مستقبلهم. إن ذلك يتطلب وعي الظروف والقوانين التي حكمت مسار حركة اليقظة العربية، منذ مناهضتها للسيطرة العثمانية، حتى مراحل التحرر الوطني من الهيمنة الغربية، وصولا إلى المرحلة التي أعقبت استقلال معظم البلدان العربية. وقد كانت هذه الحركة، شأنها في ذلك، شأن معظم الحركات الفكرية والسياسية خاضعة لقانون الفعل والاستجابة، ورهينة للتوترات التي مر بها المشرق العربي، في المراحل التاريخية المفصلية.
مرت حركة اليقظة، منذ انطلاقتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بمراحل عدة. تأثرت بما جرى حولها من تفاعلات وتجاذبات. ولم تقف بعيدة عن التيارات الإنسانية: الفكرية والسياسية الوافدة، بل تلاقحت معها وأخذت منها الكثير. وربما لا نجانب الصواب حين نؤكد أنها أحد التعابير عن تفاعل منطقتنا مع سمة طبعت التاريخ الأوروبي المعاصر، تمثلت نشوء الأمم الحديثة. بالتحولات الاجتماعية الكبرى، وأخذت منها فكرة الحرية والعدل والمساواة، وسيادة دولة القانون...
لكن بروزها، لم يكن نتاج تفاعلات مع تحولات إنسانية فقط، بل أيضا استجابة لواقع موضوعي، تمثل في صيغة رد فعل غاضب على النهج العنصري، الذي مارسه الأتراك بحق العرب، أثناء خضوعهم للسلطنة العثمانية، وخاصة إصلاحات التنظيمات الإدارية عام 1839، وتوجهات حركة تركيا الفتاة التجديدية، في العام نفسه، والتي كان من نتائجها خلق نزوع شوفيني تركي معاد للتقاليد الدينية الإسلامية.
يلاحظ هنا، أن قادة حركة اليقظة، ركزوا على استقلال المشرق العربي من الحكم العثماني، وأكدوا على أهمية الوقفة العربية، في مواجهة الذوبان والاضطهاد العنصريين، وبعث التراث العربي، دون وضع برنامج عملي لوضع هذه الشعارات موضع التنفيذ.
وحين دعت حركة اليقظة العربية إلى الوحدة، كما حدث بمؤتمرها الذي عقد في باريس، لم تخرج شعاراتها ولم تصغ استراتيجية واضحة، وبرنامجا عمليا لتحقيقها. لقد رسمت الاستراتيجيات والتكتيكات اعتمادا على حسن نيات الحلفاء البريطانيين. ولم يتعد مشروع النهضة حيز التحريض على الرجوع إلى التراث والتاريخ.
جرى اعتماد هذه الحركة، على المتغيرات في السياسة الدولية، والصراعات الدائرة بين الدول الأوروبية الفتية، والرجل المريض في الأستانة. ونتيجة لذلك، لم يحمل مشروع التحرر من الهيمنة العثمانية برنامجا للنهوض. ولم يتضمن أي تصور عن المجابهة المحتملة مع الفرنسيين والبريطانيين بعد إنجاز الهزيمة بالأتراك.
وحين تكشفت حقيقة اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور، والتنكر للعهود البريطانية التي قطعت لزعماء النهضة، ترك الحدثان بصمات ثقيلة، ليس فقط على مسار حركة اليقظة، ولكن أيضا على طريقة تفكيرها وتفسيرها للواقع العربي. فمقص التجزئة الذي لعب دورا مأساويا في تقسيم المشرق العربي، وبشكل خاص في بلاد الشام، أدى إلى أن يكون الموقف من الدولة الوطنية عدائيا. ومنذ الاحتلال البريطاني - الفرنسي للمشرق العربي، بعد الحرب الكونية الأولى، أصبح العداء القومي موجها للدولة الوطنية، وغدت التجزئة سببا لكل الأمراض التي تحيق بالواقع العربي، بما في ذلك النزعات الطائفية والقبلية والعشائرية والجهوية... وأصبحت في القاموس القومي "دولة قطرية". مع أن مقص التجزئة لم يشمل سوى المشرق العربي.
بقيت الدولة الوطنية، في مصر والجزائر وتونس، قائمة لآلاف السنين، لم يمسها مقص المستعمر. وكان من المفترض الانطلاق بمشروع النهضة من الدولة الوطنية إلى الحالة الأعلى، بدلا من القفز على الواقع. إن دعاة الوحدة، بهذا الطرح أعفوا أنفسهم، من معالجة القضايا المحلية، وخلق الجسد الصحيح، الذي هو الشرط اللازم للتكامل والتنسيق بين العرب، كمقدمة لازمة لقيام وحدة بين أجزاء سليمة. وكانت النظرة السلبية للدولة الوطنية، أول معضلة واجهتها حركة اليقظة، منذ نهاية الحرب الكونية الأولى، واستمرت حتى يومنا هذا.
في المرحلة التي أعقبت الحرب الكونية الأولى، وقعت معظم البلدان العربية، تحت الهيمنة الغربية. وقد عمل المستعمر على تدمير الهياكل الاجتماعية القائمة، في البلدان المحتلة، لصالح دولة المركز. والتعامل مع الشعوب باستعلاء، لا يرى في ثقافة البلدان المحتلة سوى الانحطاط والتأخر والهمجية. وكان الاحتلال الغربي، غريبا ومتغطرسا. وهو بالإضافة إلى ذلك، احتلال ثقافي يعمل المحتل فيه على قطع صلات الأمة بتاريخها وثقافتها وحضارتها وتراثها كله، ثم لا يصل إليها بعد ذلك سوى النزر اليسير.
أدى هذا الواقع المأساوي إلى أن حركة اليقظة رهينة لهذا الواقع البائس، وأن تتأثر أفكارها وأطروحاتها وبرامجها بحالة الارتباك وفقدان التوازن الذي طبع تلك المرحلة. كيف حدث ذلك وما هي إسقاطاته، ذلك ما سوف نناقشه في وقفة أخرى، بإذن الله.