في مقالته الأحد الماضي في صحيفة عكاظ طرح الأستاذ شايع الوقيان سؤال الأخلاق من جديد على الساحة المحلية، ليذكرنا أولا أنه على الرغم من كثرة أحكامنا الأخلاقية على الآخرين بالصواب والخطأ بل وانشغالنا المفرط بها، إلا أنه من النادر أن يطرح السؤال الأول: ما هي الأخلاق؟ قدم الوقيان هنا تعريفا مهما باعتبار أن الأخلاق هي "علاقة بين المرء وغيره"، وهو التعريف الذي برأيي يعيد للصورة أحد جوانبها الأساسية بعد أن غاب كثيرا. بحسب تعريف الوقيان فإن الفعل الأخلاقي سلبا أو إيجابا لا يكتمل إلا بحضور الآخر. فالإحسان الأخلاقي هو إحسان لشخص ما والأذى الأخلاقي هو أذى لإنسان ما. إعادة الطرف الآخر عملية جوهرية في نقاش مفهوم الأخلاق المحلي.
الطرف الآخر في الفعل الأخلاقي تلاشى بسبب حضور طرف ثالث استحوذ على القيمة الكبرى. هذا الطرف هو الكسب الاجتماعي من الفعل الأخلاقي. الفعل الأخلاقي لم يعد في جوهره واجبا تجاه إنسان ما، بل هو استجابة تحقيق لطلب ما من أجل منفعة ما وإن تحققت هذه المنفعة بدون أخذ الطرف الآخر بعين الاعتبار فلا بأس. فلنعط مثالا على ذلك. لن تستغرب لدينا أن يسلّم عليك شخص دون أن ينظر إليك. أو أن يتحوّل المبتسم الحالي إلى غاضب متجهّم بعد قليل بسبب خلاف بسيط. أيضا لن تستغرب أن يمارس الشخص سلوكين أخلاقيين متنافرين مع شخصين مختلفين في ذات الوقت. فقد يعامل الشخص منا السعودي الآخر ابن منطقته بسلوك معقول بينما يتعامل في ذات المشهد بشكل مغاير تماما مع إنسان آخر ربما من بلد أو طائفة أو منطقة مختلفة.
السبب برأيي أن السياق الثقافي السائد جعل من الفعل الأخلاقي وسيلة لتحقيق مكسب اجتماعي، وبالتالي فهو خاضع لحسبة ذاتية يحضر فيها الآخر، لا على أنه صاحب حق لا يكتمل الخلق إلا بإعطائه، ولكن باعتباره ممرا للمزيد من المكاسب المختلفة، ولذا فلن نستغرب أن تتحول قيم الأخلاق إلى مزايدات في السوق الاجتماعية. الطرف الثالث في الحسبة الأخلاقية المحلية أصبح هو الطرف الأساسي واختفى تدريجيا الطرف الأصلي"الإنسان الآخر الذي يتم التعامل معه".
هنا أصبح الفعل الأخلاقي مجالا للاستغلال الأيديولوجي والمصلحي في مجتمع لا تتاح للفرد فيه فرصة للتفكير المستقل. أيديولوجيا نجد أن الخطابات الدينية المتطرفة جعلت من السلوك الفردي والفعل الأخلاقي ساحة لتحقيق الفرز الأيديولوجي والاصطفاف الأولي لتنتج منظومتين أخلاقيتين متضادتين؛ واحدة للذات المشابهة يجب الالتزام فيها بالأخلاق ولو نظريا، ومنظومة أخرى للآخر المختلف تنقص فيها الحقوق الأخلاقية تبعا للاختلاف. فأصبح لدينا خلق يوجه للمسلم وخلق يوجه لغير المسلم، وداخل دائرة الإسلام خلق يوجه للملتزم وخلق يوجه لغير الملتزم وهكذا في تقسيمات متتالية. في كلتا المنظومتين الهدف الأول هو الأجر.
اجتماعيا تظهر بوضوح إشكالية تلاشي الآخر من معادلة الأخلاق وحضور المجتمع كطرف ثالث جوهري. الكرم، وهو المثال الذي ناقشه الوقيان أيضا، مثلا لم يعد سلوكا لإكرام الضيف وإظهار المحبة له بقدر ما أصبح تعبيرا محقّقا لمكاسب اجتماعية مهمة. الضيف هنا أصبح وسيلة وممرا للكسب الاجتماعي لا أكثر، ولذا نجد أن المكانة الاجتماعية للضيف جوهرية، باعتبار أنها ستجلب المزيد من الكسب الاجتماعي، نلاحظ مثلا أن المقيم من غير السعوديين أو من السعوديين المصنفين، اجتماعيا، في درجات دنيا لا يدخل في مفهوم الضيف المتعارف عليه. من النادر جدا أن تدعى لمناسبة على شرف ضيف من دولة آسيوية مثلا إلا إذا كان سفيرا أو في منصب وظيفي عال.
في الثقافات المحافظة عموما يحضر الدور الاجتماعي أو الثقافي العام، أو ما يسميه فرويد بالأنا العليا بقوة كمسيّر ومراقب للسلوك الفردي، وهو بطبيعته كعامل خارجي يضطر الأفراد إلى الانخراط في سلوك مزدوج، الأول ملتزم ولو شكليا بالمطلب العام الاجتماعي والديني، والآخر سلوك شخصي سري يحقق فيه الفرد رغباته المكبوتة والسرية. من تمظهرات هذه الحالة مثلا ظاهرة امتلاك كثير من الأفراد لدينا لجوالين يمارس من خلالهما، غالبا، أدوارا متباينة وأحيانا كثيرة متناقضة. في هذه البيئة يفقد الطرف الثاني في معادلة الفعل الأخلاقي حضوره وأهميته في مقابل الحضور الطاغي للطرف الثالث.
طغيان الطرف الثالث في الفعل الأخلاقي يتسبب في قطع العلاقة الطبيعية بين الفرد والآخر وبين الذات والقيمة الأخلاقية. بمعنى أن القيمة الأخلاقية تصبح قيمة خارجية مفروضة من الخارج وخاضعة لمصلحة خارجية دينية واجتماعية. الفرد هنا يفقد قيمة الاختيار والتي هي مبدأ الفعل الأخلاقي. الاختيار بمعنى أن يعبر الفعل الأخلاقي عن قناعة ومبدأ ذاتي. بالإضافة إلى ذلك فإن طغيان الطرف الثالث يجعل من الآخر، الذي هو موضوع الفعل الأخلاقي، كائنا ضبابيا بعيدا عن الصورة مما يحجب عن الفرد قيمة حق الآخر المستحق له باعتباره إنسانا وكفى، ولذا فإن إعادة الإنسان الآخر باعتباره طرفا جوهريا في فعل الأخلاق يمكن أن تفتح الباب لإعادة تأسيس للمعنى الأخلاقي تمكّن الفرد من رؤية القيمة الثابتة في الآخر، القيمة التي تعطيه حقا ثابتا يجب تحقيقه من خلال السلوك مهما كانت الفروق والاختلافات.