ترجح الروايات التاريخية أن ظهور لعبة البلوت كما نعرفها اليوم كان في العام 1920 في فرنسا، وأن أول قوانينها وضع في العام الذي يليه، مع أن اللعبة الأم والتي انبثقت عنها البلوت الفرنسية تعود لأواخر القرن السابع عشر في هولندا. للبلوت مسميات عديدة ومنتشرة عالميا حتى وصلت للمملكة العربية السعودية لتصبح اللعبة الأكثر انتشارا بين الأفراد حتى بنسخها الإلكترونية.

أصل كلمة "بلوت" ما زال مجهولا، فالبعض يعزو التسمية لرجل فرنسي يدعى بلوت، قام بنقل اللعبة من هولندا إلى فرنسا بعد أن اشتهر بإجادتها، وآخرون يعتقدون أنها كلمة قديمة من منطقة الألزاس الفرنسية وتعني "مكسبا كبيرا".

أما كيفية وصول البلوت لنا فتتضارب الروايات. ولكن القصة الأكثر تواترا أنها وصلت عن طريق أقليات فرنسية أتت للمملكة للعمل، ومنذ ذلك الحين انتشرت كالنار في الهشيم، حتى إن البعض من قطاعات الدولة تبنتها وعلى رأسها القطاع الصحي.

المواطن هو لاعب بلوت في الصحة، فهو يحمل في جيبه ما لا يقل عن ثماني بطاقات لمستشفيات ومستوصفات وعيادات، قد تنتمي بعضها لنفس المؤسسة الصحية كوزارة الصحة مثلا، فرقم المريض في مدينة الملك سعود الطبية يختلف عن رقمه في مدينة الملك فهد الطبية وكلاهما يتبعان لوزارة الصحة، وجامعة الملك سعود كمثال آخر، فرقم المريض في مستشفى الملك خالد الجامعي يختلف عن رقمه في مستشفى الملك عبدالعزيز الجامعي وكلاهما مستشفيان جامعيان.

المشكلة هنا ليست بتعددية الأرقام والبطاقات، فللمحافظ أشكال وأحجام وإنما ما تعنيه هذه التعددية.

هي ملفات متفرقة لمريض واحد، تحمل في طياتها تاريخا مرضيا مجزأ بين أقسام متعددة ومؤسسات صحية مختلفة لنظام صحي لا يرى أن تكاملية الخدمات الصحية منظومة لا تتجزأ حسب المرجعية الإدارية والمالية، نظام صحي لا يعي أنه وطني وأن المريض مواطن لا يمكن تقسيمه بين قطاعاته المختلفة. هذه الملفات الصحية المتعددة هي أحد الأسباب الرئيسية في الأخطاء الطبية، فالطبيب في مكان ما لا يعلم أن زميله قد دون في ملف آخر أن المريض كبير السن المصاب بالخرف لديه حساسية من دواء صرفه له. هذه الأرقام الصحية العديدة هي أحد الأسباب الرئيسية في ضياع جزء ليس باليسير من ميزانية الخدمات الصحية، لأن الطبيب في الرياض لا يملك الصلاحية ـ لضعف البنية التحتية ـ التي تخوله لمراجعة التحاليل والأشعة لمريض استشاره من جدة وبالتالي يضطر لإعادتها. هذه التعددية من الأسباب الرئيسية لإحباط المواطن وفقدان ثقته في نظام صحي يطالبه بتكرار قصته وتاريخه المرضي، وإعادة وخز الإبر والتعرض للأشعة كلما ذهب لمنشأة صحية.

توحيد رقم الملف الصحي للمواطن في المملكة مطلب وطني، ومن أولويات تطوير النظام الصحي في ظل ضعف قوانين أهلية العلاج الحالية، والتي ساهمت بشكل كبير في ظاهرة تعدد الأرقام والبطاقات الصحية. الرقم الصحي الموحد هو المفتاح لجودة الخدمات الصحية في المملكة، حيث من خلاله يمكن متابعة المؤسسات الصحية والممارسين الصحيين، وسيساهم أيضا في الحد من جشع القطاع الصحي الخاص، ومراقبة ممارساتهم وخدماتهم من خلاله. ناهيك أن هذا الرقم الموحد سيساعد في استصدار تقارير دورية لمنسوبي المؤسسات الصحية وللمواطنين عن الخدمات وجودتها مما سيزيد التنافسية التي ستنعكس بدورها على الخدمات المقدمة للأفراد وترفع معدلات الوعي الصحي في المجتمع. امتلاك المواطن لرقم صحي وطني موحد يرتبط بقاعدة بيانات صحية وطنية سيساهم بشكل كبير في حل العديد من المشاكل المتعلقة بساعات الانتظار الطويلة في أقسام الطوارئ ومواعيد العيادات والتنويم والتحويل بين المستشفيات. أيضا سيكون له دور رئيس ومهم في تنظيم أولويات الاحتياجات الصحية، وتوجيه الموارد البشرية وعقود الأدوية والأجهزة الطبية، والتوسع في المستشفيات والعيادات والمراكز التخصصية، بحيث تصبح خاضعة لحاجة المواطن أولا ثم لأي معايير أخرى.

أعلنت مؤخرا وزارة الصحة عن إطلاق الترصد الإلكتروني للأمراض المعدية في المملكة بقاعدة بيانات ضخمة.. إذاً فالتوجه موجود، خصوصا أن قاعدة بيانات صحية للمواطنين ليست بالأمر المستحيل التنفيذ، فالكل يملك هوية وطنية تستخدم كأساس لرقم الملف الصحي الوطني.

الرقم الصحي الموحد سبقتنا به بريطانيا رائدة الأنظمة الصحية العالمية، فكل مواطن بريطاني ومقيم يملك بطاقة صحية واحدة برقم موحد يحصل من خلاله على الخدمات المقدمة من النظام الصحي الوطني البريطاني، ابتداء من عيادة طبيب الأسرة مرورا بأقسام الطوارئ والصيدليات وصولا لأكثر المراكز تخصصا كمراكز علاج الأورام والقلب، فلا نجد جيوبهم متخمة بالبطاقات، ولا نجدهم وقوفا عند استقبال المنشآت الصحية لملء استمارات تسجيل لأرقام ملفات جديدة.

قصص معاناة المواطنين السعوديين مع تعددية الملفات الصحية كثيرة على جميع الأصعدة، علاجية كانت أم تأهيلية، حتى لتسمع أحدهم يرد على شكوى آخر بـ"شرحك سرا"!