يقول طاغور إنه "من الواضح أن شعلة الحضارة الأوروبية لم تكن لتنير الأقاليم الواقعة ما وراء حدود أوروبا، بل لتوقد النار فيها". في هذا القول إشارة قوية للأطماع الأوروبية المستمرة التي تبلورت عبر الاستعمار الذي سيطر خلاله الأوروبيون على العالم خلال القرون الخمسة الماضية، بدءاً من الكشوف الجغرافية التي بدأها البرتغاليون، ثم أعقبتها مرحلة لاحقة من الاستعمار على رقعة واسعة من قارات العالم، شارك فيها الإسبان، والبريطانيون، والفرنسيون، والألمان، والإيطاليون، والهولنديون، وكانت الستينيات الميلادية قد شهدت رحيل آخر فلول الاستعمار عن بعض الدول ومنها الجزائر، التي منح خلالها الرئيس شارل ديجول الدول العربية وصف "العالم العربي".

لا أحد ينكر دور الأوروبيين في الحضارة الحديثة التي يعيشها العالم اليوم، وما زالوا يسهمون في العلوم والاكتشافات والاختراعات التي تفيد البشرية، بصرف النظر عن العوامل والأطماع الاقتصادية التي تقع خلفها، ولكن في الوقت ذاته لا يمكن إلغاء مرحلة سابقة سادت فيها أوروبا وتضخمت أطماعها حتى تم تقسيم العالم بناء على هذه الأطماع من أميركا غرباً حتى الهند والشرق الأقصى، كما لا يمكن القول إن الاستعمار شر كله لا يملك أي إيجابيات ولو قليلة، فقد أسهم المستعمرون في العلوم والدراسات ونشر الثقافة التي أفرزتها مرحلتا النهضة والتنوير، ومن أمثلة ذلك إدخال آلة الكتابة إلى مصر خلال الحملة الفرنسية على مصر، وقيام البريطانيين في الهند بإلغاء العادة الهندوسية السيئة وهي إحراق الزوجة مع زوجها إذا مات؛ باعتبار أنها لا تستحق الحياة بعده.

لكن على الجانب الآخر، كان المستعمرون يقومون بأشد أنواع الاحتلال والبطش على السكان الأصليين ويسومونهم سوء العذاب، يحتلون أرضهم ويسخرونهم في استخراج ثرواتها الطبيعية لنقلها كمواد خادم إلى بلادهم ثم إعادتها مرة أخرى كسلع مصنعة يشتريها المستعمَرون رغم كونها من خيرات بلادهم التي نهبت!

لقد ركز الاستعمار على الاقتصاد كأولوية، لكنه نشر أيضاً بعض مكوناته الثقافية وأهمها اللغة، حيث ما زالت بعض البلدان تعتمد لغة المستعمرين، سواء بشكل رسمي أو غير رسمي كما في الجزائر والهند وغيرهما، فالحاصل هو عملية تفريغ وإعادة ملء، ولا يمكن إهمال الضعف اللغوي والثقافي بشكل عام الذي كان نتيجة للتخلف العام في الثقافة والمجتمع.

أميركا أيضاً وقعت تحت الاستعمار، حيث يقال إن الرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبس اعتقد بأنه في الهند أو جزء منها، وقد عاد إلى إسبانيا وهو يظن واهماً أنه في الهند، ومن ذلك جاءت التسمية الخاطئة للأميركيين الأصليين بالهنود الحمر. ومهما يكن من أمر فقد تصارعت أربع دول على القارة الأميركية جنوبها وشمالها هي إسبانيا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا، وكانت التصفية النهائية بيد البريطانيين، إلا أن المهاجرين الأوروبيين إلى الأرض الجديدة لم يشعروا بالولاء إطلاقاً لبلدانهم التي ينحدرون منها، فقرروا الاستقلال عن (الاستعمار) البريطاني والإسباني والفرنسي، فنشأت أجيال جديدة، وازدادت الهجرات إلى أرض الأحلام، من كافة البلدان الأوروبية والأفريقية، وقد شهدت تلك المرحلة التهجير القسري للأفارقة باعتبارهم عبيداً يتم تسخيرهم لبناء الأرض الجديدة في المزارع والمصانع والمناجم، لدى البيض الأسياد!

هذه الفوقية التي اعتمدها الاستعمار أفرزت حالة من الكراهية لدى الشعوب المستعمرة والأرقاء الذين سرقوا وهُجّروا من بلدانهم الأصلية ليباعوا بثمن بخس في الأرض الجديدة، التي شهدت حرباً أهلية طاحنة (1861-1865) أفرزت مجتمعاً جديداً وقيماً جديدة ودولة جديدة هي الولايات المتحدة الأميركية التي نعيش اليوم سيادتها وانتصارها واستعمارها للعالم عبر العولمة. لكن السؤال الذي يمكن طرحه هو: ماذا عن القارة العجوز/أوروبا؟

شعرت أوروبا مبكراً بخيباتها وخساراتها، نتيجة الحروب الطاحنة التي خاضتها عبر تاريخها ولا سيما الحربين العالميتين، إذ كان لاشتراك الولايات المتحدة الأميركية دور بارز في الانتصار خلال الحرب العالمية الثانية خاصة، ونتيجة للخطر السوفيتي المستمر تم إنشاء حلف الأطلسي، ولم تتفرغ أوروبا لمشروعها الاتحادي إلا بعد سقوط السوفيت وزوال الخطر، ولذلك كان لإنشاء الاتحاد الأوروبي أهداف اقتصادية وعسكرية واجتماعية يمليها التاريخ والجغرافيا، وما زلنا نرى تمسك الأوروبيين - فرنسا وألمانيا خاصة - بهذا الاتحاد الوليد على الرغم من العقبات الاقتصادية التي يواجهها هذه الأيام كخطر يحيط بالمشروع وينذر بنهايته، إلا أن الجهود للاستمرار بالوصول فيه إلى الأهداف المرسومة له لا تقف عند الاقتصاد فقط، بل تتعداها للسياسة والأمن، إذ يمكن القول إن الحرب القادمة الكبرى ستكون بين أوروبا وأميركا، بعد أن يعيش العالم مرحلة تشبه الفناء عبر إنهاء أي تهديدات خارجية للدول ذات الأيديولوجيات الدينية والسياسية التي تخالف الثقافة الغربية، وعند ذلك ربما يبدأ صراع في مرحلة زمنية متأخرة من الصعب التكهن بوقتها لكنها ليست عنا ببعيدة على أي حال.

فالعالم يشهد عودة التحالفات والاتحادات الكونفيدرالية، لكنها ربما لن تأتي بنتيجة أمام أهم اتحادين هما أوروبا وأميركا، بينهما اتفاقيات سياسية لكنهما سوف يختلفان عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد الذي هو عصب الحياة وعمودها الفقري، وهنا قد تدق طبول الحرب عسكرياً، بعد زوال كل الأخطار الهامشية الأخرى ومن أهمها اليوم إيران والصين، وليس ضرورياً أن يزول الخطر بفعل حرب جديدة ولكن ربما في شيوع قيم العولمة اقتصادياً وثقافياً، حيث لم تعد الجغرافيا عائقاً مهماً أمام ثورة الاتصالات والمواصلات التي يعيشها العالم.

وإذا وصل الأوروبيون إلى مرحلة عالية من التأزم الاقتصادي، فلن يجدوا بديلاً عن ارتداء خوذة الحرب، كما ارتداها أسلافهم الفايكنج والسكسون والجرمان وغيرهم، أمام المارد الأميركي المتمرد على الأصول والثقافة ببراجماتيته السياسية الفجة، وفي المقابل ستكون هناك احتمالات أخرى للتفكك الأميركي، فالولايات المتحدة تعيش تضخماً ينبئ عن انفجار، كما حصل للسوفيت، وأتذكر أن المفكر الهندي (أوشو) قد ألمح في مقابلة تلفزيونية على محطة أميركية إلى هذا التفكك، إذ سأله المقدم عن تجربة الاتحاد السوفيتي، فقال: أنا أعيش الآن في الاتحاد السوفيتي!