توشك ملفات التوظيف في القطاع الخاص أن تصبح – على الأقل – واضحة المعالم والأهداف، وما تقوم به وزارة العمل من مشروعات في هذا الصدد، وإن وجد فيها بعض رجال الأعمال أنها تتسم بشيء من القسوة إلا أنها بينت للجميع أن ثمة مسارات وحلول لقضايا البطالة وإمكانية إلزام القطاع الخاص للقيام بدوره الوطني والتنموي.

برنامج حافز، وبرامج نطاقات ولقاءات وغيرها من البرامج، إضافة إلى حزمة واسعة من برامج التدريب والتأهيل وبمدد زمنية متعددة؛ كلها تحركات أخرجت القطاع الخاص من سكونه وسلبيته السابقة ليجد نفسه أمام استحقاق وطني واضح المعالم والأهداف. السؤال: ماذا عن القطاع الحكومي؟ وماذا عن أجهزة الوزارات والمؤسسات الحكومية التي لا تزال بعض مرافقها تعج بالعمالة الأجنبية، ولا زالت خطابات تأييد الاستقدام تتصدر بعبارة: ولتعذر شغل تلك الوظائف بسعوديين. وهي عبارة بحاجة إلى كثير من التدقيق.

لم يحظ برنامج (جدارة) الذي أطلقته وزارة الخدمة بأي حضور إعلامي كالذي حظي به برنامج نطاقات أو برنامج حافز، بل طغى عليه السلوك البيروقراطي الذي يرى في الوزارة جهة تنفذ وتقرر والجمهور عبارة عن طوابير من المتلقين الذين لا يمثلون أية شراكة في البرنامج. وهو ما جعل برنامج جدارة في أذهان الكثيرين مجرد نظام إلكتروني لإدارة عملية التسجيل والبحث عن وظيفة في القطاع، وليس إستراتيجية توظيف جديد وشاملة. يقدم برنامج جدارة مجموعة من الخدمات الإلكترونية منها توحيد استمارة التقديم الإلكترونية وشمولها على التخصصات المناسبة للمتقدمين والمتقدمات على كافة السلالم الوظيفية، إضافة إلى فتح التقديم على مدار العام، لتمكين المتقدمين من إضافة ما يتوفر لديهم من مستجدات على مستوى التطوير الذاتي والتأهيل العلمي، إلى سجلهم لدى الوزارة، وكذلك بناء خطة المفاضلات طوال العام، لتسهم في إيجاد مرونة في تحديد فترات إجراء عملية المفاضلة، واختصار الوقت والجهد المستغرقين لإجراء المفاضلات، آلية تواصل مستمرة بين المتقدم والوزارة من خلال رسائل الجوال النصية والبريد الإلكتروني، كما يوفر نظام "جدارة" للمتقدم إمكانية متابعة ماذا تم بخصوص طلبه والمفاضلات التي تقدم لها والنقاط التي حصل عليها عند دخوله المفاضلة المناسبة لمؤهلاته، وعدم حاجة المتقدمين للوظائف للحضور الشخصي لمقار الوزارة.

هذه الحزمة من الخدمات مهمة وإيجابية للغاية، ومع أنها لم تحظ بالحضور والانتشار الإعلامي الذي تستحقه، تؤكد التجمعات المتكررة من الخريجين أمام كثير من الوزارات أن الحل لا يكمن في إجراءات إلكترونية فقط، يتحول معها الملف الأخضر من ملف يدوي إلى ملف إلكتروني، لكن الحل في إيجاد إستراتيجية واعية وجديدة للتوظيف، ولحصار ومعالجة الأخطاء السابقة في هذا المجال.

كل التراجع الذي شهده واقع التوظيف في القطاعات الحكومية لا يمكن التعامل معه على أنه مشكلة وزارة الخدمة المدنية، بل هو نتيجة تراكم قادم من مختلف الوزارات، ونتيجة واقع تنموي وثقافي ترسخت خلاله صورة سلبية للغاية عن الوظيفة الحكومية والأمان الوظيفي وغيرها من المفردات التي أصبحت تأخذ طابعاً سلبياً في الغالب. ورغم أن دور الخدمة المدنية يتمثل في إدارة التوظيف الحكومي إلا أنها بحاجة لتقدم مبادرات كتلك التي قامت بها وزارة العمل حين تحولت كل القطاعات والوزارات الأخرى إلى شركاء حقيقيين للوزارة، ولو أنها انتظرت أن تصلح كل وزارة أخرى لدخلت في دوامة من التواكل الذي لن ينتج أية حلول لواحدة من أبرز القضايا الوطنية. إن الجميع بانتظار مولود جديد من الخدمة المدنية، يكون شقيقاً باراً وصالحاً لجدارة، يتحول فيه التوظيف من إجراءات إلى أهداف ورؤية، تشترك فيها الجامعات ومؤسسات التأهيل والتدريب، وتشترك فيها جميع الوزارات، وتحديدا تلك التي باتت ملفات التوظيف لديها هي الأكثر حضورا وسخونة، كالصحة والتربية والتعليم. ماذا لو راجعت الخدمة المدنية خطابات التأييد التي تصدرها لقطاعات حكومية من أجل الاستقدام من الخارج، وتأكدت بالفعل من تعذر شغل تلك الوظائف بسعوديين وسعوديات. والانطلاق من ذلك الواقع لسد تلك الفجوة.

إن الحل لا يكمن فقط في استيعاب كل الخريجين، والذي تقوم فيه الخدمة المدنية بدور واضح ومؤثر حالياً، لكن بقاء المعادلة على شكلها الحالي سيسهم في تكرار هذه الأزمة سنوياً، إذ إن الجامعات تضخ الآلاف من الخريجين والخريجات بينما لم يعد القطاع العام قادراً على استيعابهم، ذلك أن عمليات التأهيل والتدريب والتعليم تتم لدينا غالباً دون مراعاة لواقع التنمية وأهمية توجيه الطلاب لتخصصات جديدة.

الواقع التنموي السعودي يشهد صعوداً نوعياً للعمل في القطاع الخاص، بينما يشهد تراجعاً معنوياً على الأقل بالنسبة للوظائف في القطاع الحكومي، ومع أن وزارة الخدمة المدنية تعاني مع بقية الوزارات ربما أكثر من معاناتها مع طالبي العمل؛ إلا أن الوزير القادم والوزارة التي تدخل مرحلة جديدة من مراحلها تقع عليهما مسؤولية أن تقود هذا الملف لا باتجاه إجراءات جديدة، وإنما نحو رؤية وإستراتيجية تنموية واعية.