تردد كثيرا في الآونة الأخيرة احتمالات لجوء الفلسطينيين إلى إعلان قيام الدولة الفلسطينية من جانب واحد في حال فشل المجتمع الدولي في إقناع إسرائيل بالعودة إلى عملية السلام ووضع الأسس العملية لقيام الدولة الفلسطينية بالتنسيق بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وبرعاية عربية ودولية. وقد نشطت السُلطة الفلسطينية بالفعل في هذا الاتجاه على مدى الأسابيع والشهور الماضية وتمكَّنت من الحصول على وعود بالاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة في حال إعلانها من دول وجهات ومنظمات دولية متعددة.

وفي هذا الإطار، قدم كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، خلال اجتماع مانحي الضفة الغربية/قطاع غزة المعروفة باسم "لجنة الاتصال المخصصة" عُقد في 13 أبريل، تقارير تشير إلى أن الفلسطينيين وصلوا إلى مرحلة أصبحوا مستعدين فيها لإقامة دولتهم المستقلة. حول هذا الموضوع، نشر "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" في 20 أبريل تحليلاً كتبه پاتريك كلاوسون، مدير الأبحاث في معهد واشنطن، ومايكل سينج، المدير الإداري للمعهد، تناولا فيه ثلاثة تحذيرات مهمة بهذا الخصوص هي: أولاً، تعتمد هذه التقارير على التعاون المستقبلي بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ ثانياً، يتوقف الحُكم الذي أطلقته هاتان المؤسستان الدوليتان على عودة غزة إلى سيطرة السُلطة الفلسطينية؛ ثالثاً، لا يأخذ الحُكم في الاعتبار استعداد السُلطة الفلسطينية السياسي الأوسع نطاقاً لإقامة الدولة، الذي لا يزال دون المطلوب.


التعاون الفلسطيني مع إسرائيل

يؤكد تقرير "صندوق النقد الدولي" بشكل صحيح أن إسرائيل ستلعب دوراً مركزياً في المستقبل الاقتصادي للسُلطة الفلسطينية: "من أجل الحفاظ على الزخم القائم في معدلات النمو، وإعادة التوازن إلى تركيبة المخرجات، والحد من التفاوتات بين غزة والضفة الغربية، والإسراع في عملية بناء الدولة. من الضروري أن تقوم إسرائيل بالإلغاء التدريجي لكافة القيود بأسرع وقت ممكن". إن ذلك يشير إلى أن إعلان إقامة الدولة من جانب واحد لن يكون تتويجاً لجهود بناء الدولة التي تبذلها السُلطة الفلسطينية، بل بالأحرى سيعطل تلك الجهود، إذ لا يمكن الاعتماد على التعاون الإسرائيلي في مثل هذا السيناريو.

ومن ناحية ثانية، فإن الزيادة الهائلة في عائدات الضرائب التي تحصل عليها السُلطة الفلسطينية قلَّصت اعتماد الفلسطينيين المفرط سابقاً على المساعدات الخارجية. إن التفحص في الجداول المرفقة بتقرير "صندوق النقد الدولي" يظهر أن ثلثي دخل السُلطة الفلسطينية يأتي من "إيرادات المقاصة"، أي الضرائب التي تحصل عليها إسرائيل نيابة عن الفلسطينيين وتسلمها للسُلطة الفلسطينية. وتشمل تلك الإيرادات، الضرائب على السلع التي يتم شحنها من إسرائيل إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، كالرسوم الجمركية والتعريفات الكبيرة على المنتجات النفطية. وفي عام 2010، حصلت السُلطة الفلسطينية على 1.26 مليار دولار من عائداتها من إيرادات المقاصة، مقابل 750 مليون دولار من الإيرادات الداخلية التي قامت بتحصيلها بنفسها. وبمعنى آخر، لا تستطيع السُلطة الفلسطينية سداد فواتيرها إلا من الأموال التي تحوّلها إسرائيل. وفي حالة توقف التعاون الثنائي، فلن تكون السُلطة الفلسطينية في وضع يتيح لها سداد الرواتب أو الوفاء بالتزاماتها الأخرى.

إن وضع غزة يُسلط الضوء على محورية إسرائيل لاقتصاد السُلطة الفلسطينية. وكما تظهر تقارير "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي"، فإنه حالما سمحت إسرائيل بشحن المزيد من البضائع إلى قطاع غزة على الرغم من سيطرة حركة حماس عليه، تعافى الاقتصاد هناك بشكل جيِّد. كما يشيد تقرير صندوق النقد الدولي بمثال واحد للتعاون الإسرائيلي في غزة، وتحديداً الطريقة التي عملت بها المصارف التجارية الإسرائيلية مع البنوك الفلسطينية لتسهيل التحويلات النقدية "في الوقت المناسب وبصورة منتظمة" إلى القطاع، متغلبة على المخاوف الإسرائيلية بشأن "التداعيات القانونية" لمزاولة العمل مع حماس.



عودة غزة إلى السُلطة الفلسطينية

وفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي، "تستطيع الآن السُلطة الفلسطينية أن تنفذ السياسات الاقتصادية السليمة المتوقعة لدولة فلسطينية تؤدي مهامها بشكل جيِّد، بالنظر إلى سجلها الحافل بالإصلاحات وبناء المؤسسات في نطاق التمويل العام والمجالات المالية". ثم يمضي التقرير ليورد سلسلة من الأنشطة التي اتخذتها السُلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة، والتي انتقد صندوق النقد الدولي غيابها بشدة خلال فترة رئاسة ياسر عرفات. وعلى وجه الخصوص، تمكنت السُلطة الفلسطينية من "تعزيز الشفافية" و"إعداد وتنفيذ ميزانيات سنوية" و"إعداد قوائم مالية سنوية" و"تشديد الرقابة على نفقاتها وتحديد أولوياتها" - وهذه جميعها إنجازات مهمة.

وللأسف، ينطبق هذا التقدم فقط على السُلطة الفلسطينية، وليس على سلطات حركة حماس التي تُسيطر على قطاع غزة. فأساليب حماس في فرض الضرائب والنفقات هي على النقيض تماماً مما يوصي به صندوق النقد الدولي، حيث إنها ليست شفافة، ولا يتم تنفيذها وفق ميزانية محددة، ولا تصاحبها قوائم مالية، كما لا تخضع لرقابة مشددة أو يتم تحديد أولوياتها. ويثني تقرير صندوق النقد الدولي على التعزيز المستمر لنظام الإدارة المالية العام للسُلطة الفلسطينية، لكنه لا يذكر الكيفية التي تسيطر بموجبها حماس على مبالغ هائلة خارجة تماماً عن هذا النظام وبعيدةً عن سيطرة السُلطة الفلسطينية.

ويذكر تقرير البنك الدولي بعض المشاكل الأخرى في قطاع غزة، مثل عدم تطبيق القضاة للقانون التجاري. لكنه يلتزم بالصمت إزاء غياب الشفافية والمساءلة والإدارة المالية العامة السليمة في القطاع. لقد كان يجب على كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أن يوضح أن التقدم الذي شهدته الضفة الغربية لا يماثله ما حدث في غزة، مما يجعل إقامة دولة فلسطينية موحدة تشمل أراضي كلا الجانبين أمرا يصعب تصوره دون عودة غزة إلى السيطرة الكاملة للسُلطة الفلسطينية.


الاقتصاد لا يكفي لإقامة الدولة

يقول تقرير البنك الدولي إنه إذا "حافظت السُلطة الفلسطينية على أدائها في بناء المؤسسات وتقديم الخدمات العامة، فستكون في وضع جيِّد يؤهلها لإقامة دولة في أي مرحلة في المستقبل القريب". إلا أن هذا الادعاء يتجاوز خبرة البنك الدولي، حيث إن إقامة الدولة أمر ينطوي على العديد من المسائل الأخرى الخارجة عن النطاق الاقتصادي.

وظاهرياً، يبدو أن تقرير البنك الدولي يعالج بعضاً من هذه القضايا "ففي حين ليست هناك وصفة لبناء دولة، إلا أن 'منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية' حددت مهام رئيسية معينة ذات أهمية إستراتيجية. وهكذا، ففي توجيهاتها السياسية "دعم بناء الدولة في أوضاع الصراع والهشاشة" لعام 2011، تعرِّف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هذه الوظائف الرئيسية بأنها الأمن والعدالة؛ وإدارة الإيرادات والنفقات؛ والتنمية الاقتصادية، لاسيما خلق فرص العمل؛ وتقديم الخدمات". ثم يخلص البنك إلى أنه "وثّق بعض إنجازات السُلطة الفلسطينية في وظائف الدولة الرئيسية التي حددتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية". ورغم ذلك، فإن تقييم البنك الدولي للسُلطة الفلسطينية هو محدود في الواقع بالمقارنة مع معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. فلا يتناول التقرير مسائل "الأمن والعدالة" على نحو يتجاوز المناقشة الضيقة لإنفاذ العقود والقانون التجاري. ويقيناً، فإن رئيس وزراء السُلطة الفلسطينية سلام فياض قد حقق خطوات كبيرة في بناء قدرات دولة مستقبلية، وتمت استعادة القانون والنظام بصفة كبيرة في العديد من المدن. ومع ذلك، هناك حاجة إلى تحقيق المزيد من التقدم في جوانب أخرى من "الأمن والعدالة"، بما في ذلك مراعاة معايير حقوق الإنسان، والحرية من العنف السياسي، ومنع الإرهاب.

وبشكل أوسع نطاقاً، تتضمن معايير البنك الدولي المذكورة واحداً فقط من الأبعاد الثلاثة لعملية بناء الدولة المبيّنة في التوجيه السياسي الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وهو "قدرات الدولة وسرعة الاستجابة". لقد حققت السُلطة الفلسطينية تقدماً محدوداً نسبياً في البعدين الآخرين - "الاستقرار والعمليات السياسية" و"التوقعات الاجتماعية" من العلاقة بين الدولة والمجتمع، وكلاهما يأتي في جوهر الانتفاضات التي تجتاح العالم العربي حالياً. لقد تمت إعاقة الجهود على هاتين الجبهتين من قبل المقاومة العنيدة لحركة فتح والأحزاب السياسية الأخرى التي تهيمن على السُلطة الفلسطينية، التي تعارض في إصلاح نفسها أو التخلي عن الفساد والمحسوبية التي ساعدت حماس على الفوز في انتخابات عام 2006.

إن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قد حالفهما الصواب بثنائهما على السُلطة الفلسطينية، لاسيما سلام فياض، على التقدم الذي أحرزوه في جهودهم المضنية لبناء الجوانب الاقتصادية لدولة مستقبلية. لقد صاحبت إنجازات فياض احتمالات غير كبيرة ستكون حيوية لنجاح واستدامة أي اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. بيد أنها معرضة للخطر بسبب ركود مفاوضات السلام واحتمالات إعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد. وعلاوة على ذلك، فإنها غير كافية دون قيام اهتمام أكبر بالجوانب السياسية لبناء الدولة. سيكون من الحكمة بالنسبة للسُلطة الفلسطينية وشركائها في "اللجنة الرباعية الدولية حول الشرق الأوسط" - الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا - أن يوجهوا النوع نفسه من العمل الثابت والجاد إلى هذه الجوانب التي ركَّز عليها فياض في الاقتصاد الفلسطيني.