تُقاس الأمم والشعوب بما تقدم للإنسانية من حضارة ورقي وازدهار يطال مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية والاجتماعية والرياضية وغيرها من منظومة الحضارة الإنسانية التي بدأت منذ عصر الإنسان الأول وامتدت حتى عصرنا الحالي مروراً بالعديد من المنعطفات التاريخية والتحولات الجذرية التي ساهمت وما زالت في بروز حالة منطقية من الفرز الأممي أنتجت حتى الآن ثلاثة مستويات عالمية. ومنذ أن بدأ هذا التصنيف قبل عدة عقود ووطننا العربي من محيطه إلى خليجه يقبع ـ ولله الحمد والمنة ـ في المستوى الثالث, أو ما بات يُعرف في أدبيات التصنيفات الدولية بالعالم الثالث, هذا العالم الذي نتوق لمغادرته والفكاك من تبعاته وتداعياته.

"عدم وجود مراكز حقيقية للبحث والدراسة في العالم العربي ساهم وبشكل كبير في تراجع دوره الحضاري والتاريخي وأبعده بشكل خطير عن خارطة التقدم والتطور التي يشهدها العصر الحديث, مما جعله لا يستفيد مطلقاً من إمكاناته البشرية المميزة وثرواته الطبيعية الهائلة. التحديات كثيرة وكبيرة أمام الدول العربية, ولن تأخذ دورها الريادي والحقيقي إلا بالاهتمام بالعلم والمعرفة, ومراكز الأبحاث والدراسات تأتي في مقدمة ذلك الاهتمام". هكذا لخص البروفيسور الأمريكي من أصل إيراني "نادر اردلان" مشكلة العالم العربي. وقد تعلمت الكثير من ذلك البروفيسور الثمانيني الذي يُدرّس التراث العمراني في جامعة هارفارد الأمريكية الشهيرة, والذي وجدته صدفة بجانبي ونحن نتجه بالباص لبلدة "أشيقر" التاريخية التي تبعد عن الرياض 180 كلم, وذلك مع مجموعة استثنائية من العلماء والخبراء العالميين والمهتمين بالتراث العمراني المشاركين في المؤتمر الدولي الأول للتراث العمراني في الدول الإسلامية والذي أقيم مؤخراً في العاصمة الرياض.

أما على الصعيد الوطني, فلا يختلف الأمر كثيراً, فلا ثمة وجود حقيقي لتلك المراكز البحثية أو لتلك المعاهد المتخصصة التي تقوم برصد وتشخيص ودراسة وتحليل المشكلات والظواهر والتحديات التي تحدث هنا أو هناك. بكل صراحة, وبكل أسف, لا وجود لها, سواء كمراكز ومعاهد مستقلة, أو ضمن جامعاتنا ومؤسساتنا الوطنية المختلفة. وقد يظن البعض ـ وبعض الظن إثم ـ أن ما يُنشر في وسائل الإعلام المختلفة, ولاسيما الصحف والمجلات, لبعض الأرقام والإحصائيات عن مشكلة هنا أو ظاهرة هناك يُعد دراسة أو بحثاً, بينما الأمر ليس كذلك, فتلك مجرد استطلاعات غير علمية وليست مبنية على أسس وقواعد البحث العلمي المتعارف عليها لدى المتخصصين في هذا المجال الحيوي الهام. محاولات خجولة وبدائية هدفها الإثارة أو تسليط الضوء على قضية أو ظاهرة ما, ولكنها بعيدة كل البعد عن المهنية والحرفية. شخصياً أحرص ومنذ مدة طويلة على متابعة ورصد كل ما تنتجه "الماكنات" الإعلامية المحلية من تلك "الدراسات" والاستطلاعات التي تستقي معلوماتها وأرقامها وإحصائياتها من دوائر صنع القرار, إضافة إلى الشارع السعودي بمواطنيه ومقيميه, أرصد ذلك بعقلية المراقب الذي يتابع المشهد بكامله, ولكن دون الوقوع في تبني أو تصديق لكل تلك الأرقام والإحصائيات.

ولكن مع كل ذلك, توجد بعض المراكز البحثية العربية التي تستحق الإشادة والإعجاب, نعم هي قليلة جداً, ولكنها تبعث الأمل في تجذر وانتشار مثل هذه المراكز العلمية الجادة التي نحتاجها في مختلف المجالات والميادين. ولعل مركز "أسبار للدراسات والبحوث والإعلام" يأتي في طليعة تلك المراكز والمعاهد العربية, ويُعتبر مع بضعة مراكز مرموقة الاستثناء الرائع في مجال الدراسات والأبحاث والاستطلاعات، مما جعله يحظى باهتمام واحترام الهيئات والمؤسسات الرسمية والخاصة والتي بنت الكثير من خططها واستراتيجياتها القصيرة والطويلة نتيجة الدراسات والأبحاث التي أعدها هذا المركز الرائع الذي يمتاز بالمهنية العالية والشفافية والمصداقية. وآخر تلك الدراسات المهمة التي أعدها مركز أسبار بتكليف من الهيئة العامة للسياحة والآثار جاءت بعنوان "الفعاليات السياحية ومدى تلبيتها لمتطلبات الشباب", وقد شملت هذه الدراسة أكثر من 1800 شاب وشابة من مختلف مناطق السعودية مستهدفة الفئة العمرية من 15 إلى 24 سنة.

وقد كشفت تلك الدراسة المهمة العديد من التباينات والتوجهات والتقاطعات في آراء الشباب حول مدى رضاهم عن فعاليات السياحة في هذا الوطن العزيز, حيث اعتبر أكثر من 60% من الشباب السعودي أن النشاطات والفعاليات السياحية المقامة في مناطق المملكة غير كافية, وفضلت 30% من السعوديات قضاء إجازاتهن السنوية وعطلة الأعياد خارج الوطن، وذلك للتمتع بالحرية في الحركة والتسوق بعيداً عن المضايقات والتجاوزات التي قد يتعرضن لها داخل الوطن. كما كشفت الدراسة أيضاً أن أكثر من 53% يرون أن الفصل بين الجنسين في الفعاليات أمر يشجعهم على حضور تلك الفعاليات! الدراسة كبيرة وشيقة وتحتاج إلى عدة وقفات مستفيضة, وليس مجرد مقال كهذا محدود المساحة.

أعتقد أن الوقت قد حان لوجود مثل هذه المراكز البحثية المتخصصة لرصد الإشكالات والمعوقات والتحديات التي تتزايد بوتيرة متسارعة, كما آن لجامعاتنا الوطنية العريقة أن تخرج من سباتها العميق لفضاء العلم والمعرفة والبحث والدراسة, وكم أتمنى ـ وأظن أن الجميع كذلك ـ أن تكون سيارة "غزال 1" هي ما سينقلنا إلى العالم الأول.