شغل موضوع الفساد المجتمعات الإنسانية منذ القدم. ومن أجل محاربته سنت قوانين حمورابي، وبرزت النظريات الإغريقية السياسية، التي بلغت ذروتها مع كتاب أرسطو في السياسة، وجمهورية أفلاطون، وتركز اهتمامها على القضاء على المظالم وتعميم مفاهيم الحكم الصالح.
بديهي أن هذا القول ينطوي على اعتراف بأن الفساد ظاهرة عرفتها المجتمعات الإنسانية في كل الأزمنة والعصور. إنه والحال هذه، ظاهرة إنسانية وعالمية، تملك صفة الاستمرارية. لكن هذا الإقرار لا يمكن التسليم به على علاته، وليس له طابع الإطلاق، لأن ذلك، لو حدث لا سمح الله، فإنه يعني تهديد المجتمعات الإنسانية بالجمود والانهيار.
كيف السبيل إذن لمواجهته؟. سؤال أزلي نقطة البداية في الإجابة عليه هي قراءة وفهم المحركات والدوافع التي تؤدي إلى استفحاله، وقيام أنظمة سياسية تستوحي مشروعيتها من التمسك بأسس العدالة، وتحقيق مصلحة الأمة. وإذًا فإن عملية الرصد والمتابعة للظروف التي تستفحل فيها ظاهرة الفساد، تمثل خطوة جوهرية في اتجاه محاربته.
لنأخذ في هذا السياق، بعض المقاربات: تؤكد تقارير مؤسسة الشفافية الدولية أن دول العالم الأقل فسادا هي فنلندا وسنغافورة والسويد وأستراليا والنرويج وسويسرا والدنمارك وأيسلندا، وأن الدول الأكثر فسادا هي أذربيجان وإندونيسيا وكينيا وأنجولا والكاميرون وأذربيجان وهايتي وبنغلاديش وباراغواي وطاجاكستان. نحن هنا إزاء قائمتين يبدو أن الأولى يغلب عليها الطابع الأوروبي، باستثناء سنغافورة الآسيوية، وأستراليا التي لن يجادلنا أحد في الطبيعة الأوروبية لثقافاتها وأسلوب حياتها ونظام الحكم فيها. أما الثانية، فهي أفرو آسيوية، في تركيبتها وثقافاتها، حتى وإن كان من ضمنها بعض دول أمريكا اللاتينية، فهي في الحصيلة جزء من تركيبة العالم الثالث.
تواجهنا هنا أسئلة مشروعة عن غياب دول كبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من القائمة الأولى، وعن غياب معظم البلدان العربية من القائمة الثانية. إن تقارير الشفافية الدولية تعني أن الفساد يمكن أن يسكن في أعتى الدول الديمقراطية عراقة، كما يمكن أن يوجد في أكثر البلدان تخلفا واستبدادا وغيابا للقوانين وحق المشاركة في صناعة القرار.
لكن هذا الاستنتاج موغل في التبسيط،. فاعتبار ما يصدر عن مؤسسة الشفافية الدولية بوصلة في التقييم يؤكد أن النظام السياسي الديمقراطي عرضة للفساد، شأنه في ذلك شأن أنظمة الاستبداد. لكننا في الحقيقة لا نعلم كثيرا عما يجري في الأنظمة الشمولية والمغلقة، لأن كل الحقائق مغيبة، في حين يجري تسليط الضوء جهارا على ما يجري داخل الأنظمة التي تسود فيها الشفافية وسيادة القانون. إنها تخضع لكافة أنواع المساءلة والكشف والتحليل، الجزئية والكلية، كما يقال في علم الاقتصاد. والسؤال فيها غير محرم، ولا يجرم سائله. أما في الأنظمة الشمولية والاستبدادية، فإن السؤال بحد ذاته جريمة تعاقب عليها اللوائح والقوانين، ويخون فيها السائل، ويستباح دمه وعرضه وماله.
ذلك على أية حال، لا يلغي رحلة البحث عن السؤال في جذور الفساد وأسبابه. لقد جربت البشرية خيارين. الأول ساد فترة طويلة، وفيه غيبت فكرة الحرية والمشاركة في صناعة القرار، وساد فيه نظام توتاليتاري استثمرت فيه بطانة من الناس، وجودها بأعلى الهرم الفرصة لتحقيق المغانم لذاتها وللفئات المتحلقة حولها. وفي مقابل ذلك، نشأ نظام سياسي في العصر الحديث، ساد بعض الأقطار العربية منذ الخمسينيات، يقوم على أساس برلماني في ظاهره، لكنه في جوهره يمثل إقطاعا سياسيا، تغيب فيه فكرة الدولة الحديثة، ويمارس تزييف الانتخابات والتزوير والتلاعب والرشوة. وتوزع الغنائم على أسس القسمة، وتتلاشى اللوائح والقوانين.
والنتيجة أننا إزاء مظهرين سياسيين، الأول يضيع حقوق الناس، ويحجب عنهم حق المشاركة في صناعة القرار، وسيادة القانون، والثاني، يغيب فيه العدل الاجتماعي ويوسع الفجوة بين الغنى والفقر. وللأسف فإننا في العادة نغلب عنصرا من عناصر النهضة على حساب العنصر الآخر. وكان ذلك أحد العوامل الرئيسية في استفحال ظاهرة الفساد، في كلا المظهرين السياسيين.
يرى البعض الحل في مقولة "المستبد العادل". لكن المستبد العادل في التاريخ الإنساني كان ولا يزال ظاهرة استثنائية. بل لعلنا نستطيع القول، إن القادة الذين يضعون مصلحة الجمهور في اعتبارهم هم قلة في التاريخ الإنساني. إن ذلك يوصلنا إلى نتيجة محزنة مؤداها استحالة فكرة المستبد العادل، قاعدة يبنى عليها في إشادة الحكومات والممالك.
يرى البعض أن المعالجة تكمن في القواعد الأخلاقية، وأهمية التربية وخلق النشء الصالح. لكن الإنسان بطبيعته مليء بنوازع الرغبة بالتملك والاستئثار. وهذه النوازع تنمو معه بشكل مطرد، وتعززها ثقافات متينة وتقاليد راسخة. إن هذه المنظومة تحول دون تأمين حقوق الناس. وقد وجدنا أن كثيرا من الوعاظ غارقون في عمليات الفساد حتى أخمص قدميهم، وينطبق عليهم المثل الدارج "حاميها حراميها". لا بد إذن من حل جذري وعملي للقضاء على ظاهرة الفساد.
ومرة أخرى، نعود إلى تقارير مؤسسة الشفافية الدولية. وسنجد أن أسباب احتواء ظاهرة الفساد في الدول الاسكندنافية هو المزاوجة بين الحرية والعدل الاجتماعي، بما يعني وجود قوانين ومؤسسات مدنية ورقابة فاعلة، وضرائب على الدخل تتجه إلى الأعلى، مع ازدياد وتضاعف الثروة، بحيث تتأكد سيادة القانون وحق الناس بما يضيق الفجوة بين الغنى والفقر، ويحول دون تراكم الثروة. وفي هذا السياق، ينبغي تفويت الفرصة على المنافقين، فوجود السلطة المطلقة هو مدعاة لنمو المحسوبية والوجاهة والرياء وتسلق المنتفعين، وتلك هي البيئة الملائمة لاستفحال ظاهرة الفساد وانفلاتها.
ويبقى أن نشير إلى أن الفساد في الوطن العربي هو ظاهرة مركبة، تدَخّل فيها، بالضد من إرادتنا ورغباتنا، عامل خارجي، حين وضع لنا هذا الأجنبي، في نهاية الحرب العالمية الأولى، حدود أقاليمنا ومواطئ أقدامنا، بشكل منع عنا قيام الدولة الحديثة ومؤسساتها، وغيّب فكرة الوطن الواحد، وساهم بشكل حاد في تحقيق اختلالات في التشكيل الديمغرافي وتوزيع الثروة. وهي قضية جديرة بالدراسة والعناية من قبل المثقفين والمفكرين والمهتمين بالشأن العام.