عامٌ آخر يرحل وبضعةُ وريقاتٍ في اصفرارها الأخير تودّع شجرتها فتنفرط للريح أو للتراب. كان المرجل يدفقُ بناره والشعلةُ ترتفع تأكل وجهَ العام. قطعةٌ من العمر تُقضَم وتذهبُ إلى الرماد.

هل فكرةُ الجسدِ الذي يغذّي السيْرَ نحو التلف؛ انكشافُ الظلِّ رويدا تحت شمسٍ واضحة؛ المزاجُ الذي يخسرُ مواقعه يوما بعد يوم؛ مرارةُ الاعتياد على مشهد تجد نفسَكَ فيه لكنّك خارجه منذ دهور؛ النقصانُ الذي يوسّع الفجوة ويبعدُ الضفاف عن العينِ؛ بطاريّةُ الحلم وحشرجتُها تؤكّد النفاد..

هل هو ركامُ السنين ببياضِها المرعب وأوراقها المتطايرة تصدم الجبهةَ بصيحةِ خواءٍ فاجرة: كُفَّ عن الوعد فقد أخلفتْكَ المواعيد. الرصاصةُ استقرّتْ في النخاع، وما تحسبه يمشي ليس أنت.

الثّقَلُ الراسبُ في نقيَّ العظام، كنتَ تراه ينزل ويشدُّ معه نهارَك. شمسُ الحبرِ دخان؛ لا يعلو فتطفو معه. دخلتَ النفقَ وشاخَ الأمل على أبوابٍ نازحةٍ تحرمك الاقترابَ منها؛ تنأى وقبضتُكَ معلّقةٌ في الهواء يشحذها الصمتُ المرُّ.

برئتَ من الانتظار. صرتَ تبغض الحنين. وجودُك عائمٌ على هدير الساعات تنقضي لأنها يجب أن تنقضي.

بلا جذور، بلا أغصان.. تتدحرج في عماء. كرةٌ مركولة يقذفُها طيشٌ مراهقٌ لا يريد للعبةِ أن تنتهي، رغم انصراف الجمهور وغياب الضوء.

بهتتْ جمرةُ الجنون.

الدهشةُ أغمضتْ جفنَها.

مالتْ أغصانٌ كثيرة واندحرَ الثمر.

هدَّكَ كتابُ الغياب يا عبدالله.

تمقتُ آخر العام، لا تهشّ لأوّله. تنكفئ في غرفتك وحيدا، تسحب كتاب "ظلال لسيرة تائهة" وتمضي في حفيف الأوراق وحدها:

(ليست السنواتُ

التي كانت فسحةً عابرةً للعب

ولا الحرب

ولا الأسفار

التي أناخت ظهورَنا

ولكن الأشياء الصغيرة

التي اختفتْ فجأة:

الركضُ من أقدامنا النحيلة

الآهاتُ التي أشعلتْ صدورَنا

الرسائلُ السريّة في دفاترنا

كأننا نغادر فجأةً

وثمّة من أغلقَ الأبوابَ وراءَنا).