أتذكر قبل سنوات حواراً مع أحد أساطين الصناعة بالمملكة صرّح فيه بقوله إن "إنتاج سيارة سعودية ليس له جدوى اقتصادية".. وأتذكر أيضاً أن الدم قد غلى في عروقي.. لدوافع متعلقة بالأيديولوجيا الوطنية وبكمية (الأدرينالين) التي كانت تضخها غُدتي الكظرية الفتيّة آنذاك.

لكني كبرت قليلاً وتعلمت أن الاقتصادات الوطنية ليس لها علاقة بالنزعات الأيديولوجية ولا بحماس الشباب. ولا شك بأن جامعة الملك سعود والجهات المشتركة معها والتي أفرحتنا بخبر إنتاج السيارة السعودية الأولى يعرفون هذه الحقائق جيداً، وعندهم خطة حقيقية طويلة المدى لإدارة الخط الذي سينتج 20 ألف مركبة سنوياً كما جاء في الأخبار أيضاً.. لكننا سنشاركهم هنا بعض التأملات في شجون السيارة السعودية الأولى.. التي لا يريد لها أحد أن تكون الأخيرة.

بالعودة للذكريات القديمة مجدداً، هناك قصة رائجة عن وكيل سيارات سعودي اتجه للمصنعين باليابان وفاتحهم برغبته في إنشاء مصنع بالسعودية. لكن اليابانيين رفضوا وكانت حجتهم أن اليد الصناعية العاملة بالسعودية كلها مُستقدمة.. فلا توجد عمالة فنيّة وطنية، وليس من المعقول أن يستثمر اليابانيون في عامل آسيوي ليدربوه ويصقلوا مهاراته كي ينتهي عقد عمله بعد سنتين ويصدر له الكفيل "خروجاً نهائياً".. هذا إذا لم يفر العامل المدرّب إلى اليابان ذاتها! هذه القصة بغض النظر عن مدى صدقها محمّلة بالمعاني الحقيقية. فتصنيع "سيارة" لا يعد فتحاً تكنولوجياً.. ليس في عصر النانو ومسرّع (هادرون). إنه مشروع صناعي في المقام الأول. والمشاريع الصناعية لا تقوم على أكتاف "العلماء" ولا الأكاديميين.. إنهم قد يطلقون شرارتها الأولى ويرفدون تقدمها بالأفكار الجديدة. لكن الصناعة تحتاج لـ"صناعيين"، وهؤلاء يمثلهم الحرفيون والفنيون والعمّال وأصحاب رأس المال. نحن نشاهد في الأخبار كيف تشل إضرابات العمال كبار صنّاع السيارات.

إذا أريد للسيارة السعودية الأولى أن تعيش وتزدهر.. فإننا بحاجة لخلق ثقافة عمالية بالمملكة. وإذا كانت (غزال -1) ستعد علامة فارقة في التاريخ السعودي فإن ذلك سيكون عبر خلقها لشريحة اجتماعية جديدة تماماً هي شريحة (العامل السعودي) الذي سيشغّل خط الإنتاج وسيركّب أجزاء التصميم وستحدد مهارته مدى جودة السلعة وتنافسيتها بالسوق. وهذا هو "الاستثمار في الإنسان" الذي نقرأ عنه وقلما نراه. إن (غزال - 1) ستكون رافداً حقيقياً للاقتصاد المحلي إذا بنيت لأجلها مصانع، وخلقت هذه المصانع فرص عمل ليس لحملة الشهادات الجامعية العليا.. بل لحملة الشهادات المدرسية والدبلومات من الفنيين الذين ستنتجهم البيئة الصناعية الواعدة.

(غزال - 1) ستكون رافداً للاقتصاد الوطني إذا كانت منتجاً ربحياً يبيع في السوق ويقبل على شرائه الناس. لننس التصدير للخارج. ما الفائدة من تصميم سيارة إذا كان مواطنك لن يشتريها؟ ما هي شرائح المستهلكين المستهدفة بالسيارة في السوق السعودية؟ هل ستبيع بسعر منافس؟ ماذا عن خدمات الصيانة وما بعد البيع؟ وماذا عن المنافسة؟ إن أي منتج في العالم لن يتطور ما لم يكن له غريم محلي ينازعه على رضى المستهلك.. هل نجرؤ على توقع منافس وطني لمشروع السيارة الأولى؟ هذه كلها أسئلة طويلة المدى تخفي وراءها آفاقاً باهرة لحلم اقتصادي جديد.. ومن المؤكد أن منتجي (غزال) قد أشبعوها تقليباً وإجابة.

بعد كل المذكور أعلاه فإن المتوقع الآن أن تدخل مؤسسات التعليم الفني والمهني شريكاً على الخط، لأن هذا هو مجالها الأصلي الذي اختطفته منها وسبقتها إليه جامعة الملك سعود مشكورة. (غزال -1) ليست مشروعاً جامعياً.. بل إنها كي تنطلق وتكرس اسم السعودية في عالم صناعة السيارات، فإنها يجب أن تخرج من عباءة الجامعة وأن تتلقفها السوق الصناعية الحرة ومؤسسات إعداد الكوادر الفنية والتقنية. وحين يقوم مصنع سيارات (غزال) وتُفتح بيوت على حس إنتاجه.. عندها سيكون فخرنا مضاعفاً وحقيقياً، ويكون المشروع قد آتى ثماره.