توافق الناس على معاني الألفاظ هو الذي يجعل الاتصال بين البشر سهلا متناميا دون عناء رغم ما فيه من تعقيد.. وحين تفقد الكلمات معانيها المشتركة بين الناس يضطرب التواصل ويزداد سوء الفهم.. وهذه الكلمة اليوم لها صلة بهذا الموضوع حين تقترب من محاولة كشف زيف الخصومة "الوهم" بين العقل والدين. ومن اللافت أن الجميع يزعم احترامه للعقل واستصحابه لكن حين تفحص دلالات الألفاظ وتعرض على التطبيق ينكشف المخبأ وتتضح معالم ما يقوله كل فريق.

في البدء، نسجل أن مسيرة المسلمين ترصد "علاقة طردية" بين ازدهار الدراسات الشرعية وارتباطها بالحياة وغوصها في تفاصيل احتياجات الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبين علو مكانة العقل وتقدير مكانته وإجلال دوره وتحكيمه في القضايا العامة.. كما تلاحظ العلاقة المتلازمة بين خط الانحدار الحضاري وبين انحسار الإشعاع الديني وتراجع الفتوحات الفقهية وانكفاء دارسيه على النصوص الفرعية، وكانت العلاقة المتلازمة بين العقل والشرع دلالة على الحيوية واستيعاب الحضارات والتفاعل مع الميراث الفكري الإنساني والاستجابة لتطور حياة الإنسان وتطلعه، الذي لا يتوقف، إلى الإبداع وطموحه، غير المحدود، إلى التفوق واكتشاف الآفاق.. وتاريخ المسلمين يزخر بالشواهد المؤكدة "لمؤاخاة" العقلي والشرعي.. وغالبا ما واجه الاثنان، العقل والشرع، خصومهما حين لا يدركون عظمتهما أو حين تعجز وسائلهم عن إدراك أعماقهما وأهدافهما ومقاصدهما الكبرى التي من أجلها أعطي الإنسان المكانة العليا بين المخلوقات..

وفي هذه الفترة تقوم حرب "مفتعلة" بين العقل والدين، يوقدها فريقان لم يتمكنا من استيعاب مقاصد الدين أو الخوض في غمار العقل الراشد وبحاره الزاخرة وما يقود إليه من مناهج تفتح مغاليق العلوم للإنسان حتى يصبح شريكا منتجا في سباق البشرية ولا يشعر أنه عالة على أهل العقول الحرة.. أحدهما الفريق، يسعر الحرب بين العقل والدين، يزعم أنه مدافع عن العقل الحر وأن يصرخ حتى لا تنقض "ذئاب الغيب" على مكتسبات العقل.. فإذا رصدت منتج هذا الصارخ وعددت مساهمته في حقل العقل ألفيتها بعيدة عن مقاصده الراشدة، فهو لم يستوعب تراكم المنتج البشري ولم يفرز محطاته الفاصلة عن محطات التجريب التي تجاوزتها البشرية. ولم يتمكن من تقديم خلاصات مكثفة استوعبت النافع من التجارب وتجاوزت ما تبين خطؤه وانكشف عدم صلاحيته. هذا الفريق اعتقد أن الصراخ باسم العقل، دون أن يقدم منتجا عقليا ناضجا، يمنحه "رخصة" الحديث باسمه ويعطيه حق رفع لافتة التحديث بل حتى "الحداثة" التي لم يقترب من مفهومها واكتفى بالعناوين وخطْف بعض المفاهيم الجزئية. ويقابل هذا الفريق "شريك" آخر يشترك معه في" السباحة على السطح" وعدم قدرته على الغوص واكتفى بالوقوف عند الإشارة الأولى من المعاني والأفكار، لكن يبدو مختلفا معه بل مناقضا له لأنه يزعم أنه المنافح عن حياض الدين بمحاربة العقل .هذا الفريق "القشري" الذي يكتفي من الدين ببعض مظاهره الخارجية ظن، هو الآخر، أنه يملك حق الدفاع عن حومة الشرع وهو لا يملك رصيدا من شواهد فهمه الدالة على مقتضى استخلاف الإنسان. ولم يقدم من ثمرات معايشته لجوهر الدين فتاوى ودراسات معمقة تخرج الناس من ضيق الحيرة إلى سعة الاختيار.

هذه "الزوبعة" افتعال "التناقض بين الدين والعقل" أفرزت خطابين متصارعين أضاعا الجهد والوقت في معركة متوهمة انشغل المتحاورون فيها "بالظواهر" دون الاهتمام بالنتائج. كما أدت إلى ظهور تيارين متناقضين في الاتجاه متحدين في الانطلاق، فكلاهما ينطلق من "محطة الضعف" وقلة الزاد وعدم الأهلية التي تمكنهما من تمثيل الدين أو العقل.. فالتيار "العقلي"، الذي يتغنى باحترام العقل والدفاع عنه، لم يستوعب ثمرات الحضارة الغربية وضاق بتشدد خصمه فأراد أن يخلع عباءة الدين لأن الصورة التي يقدمها المتشددون تبعث على النفور منه. ولأنه لم يتزود من المعرفة الدينية بما يمكنه من محاججة التشدد وأهله ومناقشة ذرائعهم وكشف ثغرات نسيجهم المعرفي، اختار أن يقع في جريرة خلع الدين- على إطلاقه- لأنه يرى فيه القيد الذي يحول بينه وبين اللحاق بالحضارة الإنسانية المتصاعدة على سلم العقل. وفريق التشدد الذي يدعي حماية حوزة الدين دون أن يتسلح بما يقتضيه الدين نفسه من"عدة" يأتي في مقدمتها احترام العقل ونتاجه الإنساني.. هذا الفريق، لبعده عن مناهج العقل، توهم أن أخطر خصومه في هذه المعركة الخاسرة، هو العقل ومقتضياته الشرعية ولهذا "افتعل" عداوة زائفة بين العقل والدين وأرهق نفسه واستنفد جهده في تتبع شواهد "التعارض" ليقدمها في خطابه واستشهاداته ويداوم على تكرارها في غالب خطابه الجماهيري حتى لكأنه يريد أن يرسخ في الوعي العام أن إعمال العقل والاطمئنان إلى ثمراته منهج مصاحب للزيغ والبعد عن التدين. ويسهل على المتتبع رصد معاداة هذا الفريق للعقل الراشد من خلال احتفائه بالمنقول – عجره وبجره - وعدم انشغاله بدلالاته وما تحدثه الحياة وتفاصيلها ومتغيراتها على معانيه من مستجدات وتبدلات وتحقيره للمعقول مهما سمى وصفا وتفاعل مع الحياة واستوعب النافع منها للإنسان. هذا التياران: تيار الهروب من الدين عن جهل وتيار الاحتفاء بالعقل عن جهل يسممان البيئة العلمية بصراخهما وعلو أصواتهما حتى لتبدو الساحة خالية من غيرهما بعد تراجع "العقلاء" وأهل الدين، إلى الظل ضنا بالدين والعقل واحتراما لهما وتنزيها لهما حتى لا يستغلا ما يعارض حقيقتهما ومقاصدهما وهما الشاهد والمزكي كما يقول الفقيه المالكي الكبير ابن عربي..

ونحن في هذه الفترة نعيش مرحلة استثنائية تمر فيها المنطقة بمنعطف تاريخي يتوقع أن يفضي إلى تغيرات كبرى في النظم الاجتماعية والثقافية والحوارات الدينية المتصلة بالقضايا السياسية والاقتصادية والمالية وموقفنا من العالم الخارجي بل ستمتد هذه الحوارات حتى إلى صيغ تبادل المنافع وترتيب العلاقة بين دول وشعوب المنطقة.. فهل يمكن تدارك خطر الخطاب المروج لتناقض الدين والعقل؟ وهل الظرف ملائم لفتح حوار ديني عاقل راشد يهدف إلى كشف أدعياء "التدين القشري" وزيف "العقلانيين" السطحيين الذين يتمسحون بالعقل هروبا من روح المجتمع ودينه الذي ينادي باحترام العقل حين يكرم صاحبه بالحرية والإرادة التي عليهما يقوم الإيمان؟. وأعتقد أن أكثر الناس تأهيلا لهذا الحوار "العاقل" هم علماء الدين المستنيرون الذين يصدرون عن معرفة بالينابيع الصافية لهذا الدين والإدراك الشافي لمقاصد الشرع.. هؤلاء هم القادرون على تخليص هذا الدين من "مدعي" الدفاع عنه وهم القادرون على إقناع أتباعه حين يكشفون أخطاء فريق التشدد ومخاصمة ثمرات العقل.. ولا بد أن يدرك الذين يروجون لحداثة تقوم بعزل الدين عن الحياة، في هذه المنطقة، أنهم واهمون ويحرثون في البحر.. هذه المنطقة قدرها أن تكون "حاضنة" للدين وفكره وعقله وأن العقلاء من أبنائها هم الذين يسعون لبناء حداثة تزاوج بين الدين الراشد ومنتجات العقل البشري بكل معطياته التكنولوجية والفلسفية والاقتصادية والسياسية.