أفرزت الأحداث السياسية النوعية، نوعاً من الاضطراب الكلّي لدى المجتمعات والأنظمة السياسية في العالم، ولا سيما ما بعد عام 1990، الذي هو الحد الزمني الفاصل بين العالم القديم - بكل وسائل اتصالاته - وعالم آخر جديد يحمل قيماً جديدة ومؤثرة، أفرزتها ثورة هائلة في الإعلام والاتصال.
لقد شهد هذا العام متغيرات كبيرة أهمها سقوط الاتحاد السوفييتي كقطب ثان في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم توالي سقوط منظومة الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية كاستمرار لانفراط العقد السوفييتي، وما لم يسقط من تلك الدول تولت الولايات المتحدة إسقاطه كما حدث في يوغسلافيا السابقة فيما بعد.
إلا أن التحول الأهم كان نحو الشرق الأوسط، بدءاً بنشوب حرب الخليج الثانية (تحرير الكويت) التي كان النظام العراقي طرفاً أساسياً فيها، ثم احتدام الخلاف بين (أشقاء الجهاد) في أفغانستان، وبروز منظمة القاعدة كخطر جديد يهدد العالم بالأعمال الإرهابية.
واستمرت الأوضاع شائكة، حتى حادثة الحادي عشر من سبتمبر وتدمير أماكن حيوية في الولايات المتحدة، تدخلت على إثرها أميركا لتدمير منظمة القاعدة في أفغانستان، وبعد ذلك بعامين تم إسقاط نظام صدام حسين بتدخل مباشر من أميركا وحلفائها الغربيين، فازداد تهديد الجماعات الإرهابية للأمن والسلم في العالمين العربي والإسلامي.
كانت كل تلك الأحداث تعبر عن التدخل العسكري الأميركي المباشر وإسقاط الأنظمة السياسية بالقوة، أعقبتها مرحلة أخرى تمثلت بثورات الشعوب وبالتالي إسقاط الأنظمة، بدءاً من تونس ومصر وليبيا، ثم اليمن، أما سقوط النظام السوري فيبدو وشيكاً، وسيكون الطريق لسقوط النظام الإيراني، ولا ننسى أن مختبر الثورات العربية بدأ من إيران، حيث الثورة الخضراء التي فشلت على الأقل في مرحلتها الأولى، ولا يستبعد أن تعود من جديد، غير أن التدخل العسكري الأميركي والدولي ضد إيران يظل احتمالاً وارداً دائماً.
وبعد إيران، سيكون الطريق سالكاً نحو كوريا الشمالية التي ستكون المعقل الأخير أمام الصين، والتي لو حدثت بها ثورة ستكون أكبر ثورة بشرية في التاريخ لن تجدي نفعاًَ أمامها كافة الأسلحة، وهذا ما أرجحه؛ لصعوبة حدوث حرب أميركية صينية؛ لأنها ستكون دمارهما قبل دمار العالم، وهما يدركان جيداً هذا الأمر.
أما روسيا، ومنظمة الكومنولث الروسي، فهي فاقدة للتأثير المضاد، نتيجة للمشكلات الاقتصادية والسياسية داخلياً، إلا أن الديمقراطية فيها تلوح في الأفق، ولا سيما بعد فشل مشروع "بريماكوف" وزير الخارجية الروسي صاحب المشروع الحالم، المتمثل باتحاد ثالث ـ بعد أميركا والاتحاد الأوروبي- يضم روسيا والصين والهند، وقد أصبح ضمن مشاريع الأحلام المنتهية التي لا يمكن تحقيقها.
أما بعد ثورات الربيع العربي، فقد أصبح الحال اليوم يشبه تساقط أحجار الدومينو، كل يوم هناك حدث جديد، ومشروع جديد، في ظل سياسة عالمية لا تؤمن بالعلاقات الدائمة ولا بالعداوات، بقدر الإيمان بالمصالح الدائمة، وهذه المصالح ليست اقتصادية على طول الوقت.
فالسؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: ماذا سيكون عليه قادم الأيام؟
وللبحث عن إجابة، يجب أن ننظر في الأحداث الماضية لنستشرف المستقبل على ضوئها، لنرى أن العالم اتجه منذ أكثر من عشرين عاماً إلى الأمركة فعلياً، وهي ما يسمى بـالعولمة، أي جعل العالم ثقافة عالمية واحدة، تسود فيها الثقافة الأميركية بتفوقها على كل الثقافات الموجودة، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حيث لا يمكن الإنكار أن الإنسان في العالم الأول نال حريته - عدم وجود حرية مطلقة - إلا أن الحريات تمثلت في واقع جديد منحه القدرة على أن يعيش بلا قيود ولا أوصياء، بل يختار هو قيوده بنفسه، وفي هذا العالم الجديد من الأمركة لم ولن تصمد الثقافات الأضعف أمام الطوفان الأميركي، بل سوف تتجه شعوب العالم مستقبلاً إلى التبعية المباشرة لهذه الأمركة، إذا ما استمر إحساسها بالظلم والكبت والطغيان؛ لأن الأمركة رغم قساوتها اقتصادياً وإنسانياً تتيح على الأقل الفرصة للإنسان كي يعيش حراً، فحتى المشردون والبؤساء الذين لا يجدون قوت يومهم، يشعرون حتماً بالحرية التي هي الأولوية الإنسانية الأولى.
تتحسس الشعوب العربية والإسلامية من لفظة الأمركة والقادم الأميركي، لكنها تمارسها دون وعي في جوانب كثيرة في تجسيد واقعي للازدواجية الثقافية والاجتماعية والفردية، كمن يشتم أميركا على المنبر، ويحذر من أخطار العولمة، ثم يركب سيارته الأميركية الصنع ويمضي، ويتداول أسهم البورصة، المرتبطة بـ(وول ستريت)، ويحرص على ابتعاث أبنائه للدراسة في أرقى الجامعات الأميركية.. مما يجعل مثل هذه المثاليات محض ادعاء!
لا يمكن القبول بدعوة الانخراط كلياً في العولمة (الأمركة)، لكن في الوقت ذاته هي واقع لا يمكن تجاوزه، لذلك يفترض أن يكون هناك استعداد للولوج في العالم الجديد طالما أن الفرصة سانحة أمامنا لنحقق ذاتنا ونتمسك بأساسياتنا الثقافية، دون تطرف ودون ادعاء ومثاليات مزيفة.
إن الخطر الحقيقي للأمركة هو عدم الاستعداد لها، ببناء الثقة الاجتماعية من خلال صناعة أجيال تستطيع التعامل مع هذه الثقافة، فمحاولة الانعزال والانزواء عنها هو بمثابة المسجون في زنزانة يحلم بالحرية، فإن تمثلها في عقله فواقعه شيء آخر تماماًَ يحتم عليه في لحظة أن يعيه، أن يعي أنه سجين يعيش عزلة حقيقية عن العالم الخارجي!
الفيلم الأميركي (2012) الصادر قبل سنتين، اختصر فكرة الأمركة في بعض جوانبه، إذ صوّر حدوث طوفان كبير يهدد العالم بالدمار، وأميركا هي التي قادت العالم فنجا كل من ركب في فلكها، وهلك كل من لم يستطع ذلك. الأمركة فعلاً أشبه بطوفان، إذا لم نتعلم كيف نتعامل معه ونكون مؤثرين بقدر تأثرنا به، فإننا لن نشارك في صناعة فُلك النجاة وبالتالي سوف نغرق مع الغارقين!