يعود الروائي منذر بدر حلوم في روايته "سقط الأزرق من السماء" إلى بداية فترة الثمانينيات من القرن العشرين، ليقدم صورة واعية لأبطال روايته، بعد أن تجاوزوا مرحلة طفولتهم في بداية تشكل منظومة القمع في سوريا، حيث حماة عام 1980، وما جرى من فرز طائفي على خلفية سياسية. وفي هذا الفرز تطالعنا مصائر شخصيات تعبر في أساسها عن ملامح بيئة ساحلية، وهم وإن كانوا أفراداً إلا أنهم يعبرون عن علاقات اجتماعية عامة تتراوح بين الصداقة والعداوة وما بينهما، حيث الخسة والحسد والكذب في مقابل أخلاق الفرسان التي تظهر أكثر ما تظهر حين نظن أن الشر استطار وأجبر الحق على الخنوع. ومع أن النماذج التي يقدمها الروائي تفترض بشكل أولي أن يتصف أبطاله بالانسجام، كونهم زملاء وجيرانا في بيئة واحدة، لكن الخلفية الأسرية والاجتماعية تبرر الاختلاف، وهشاشة التكوين النفسي لـ"عزيز"، مثلاً، جعلت منه عدواً لزملائه وأهله ومواطنيه عموماً، بل ولنفسه أيضاً، حيث امتهن أن يكون مخبراً، يشي بأصدقائه وزملائه تسولاً لمكانة عند من لا مكانة له، فالقوة قد تعطي لأحد ما مكانة التبجيل والاحترام لكن ذلك يبقى ابتلاء واختباراً لا يلبث أن يتلوه ابتلاء ممن هو أقوى في تداول الأيام.
قد لا يشكل الدخول في مفردات الرواية فائدة، ولذلك نترك لاجتهاد القارئ أن يكتشف ذلك، أما ما يمكن أن نقول به فهو كيف عالج الكاتب موضوعه، وكيف قدم مفردات قصص أبطاله، وبأي لغة ولسان تحدث، وهل كان يراعي درجة تعلم وثقافة ووعي الأبطال؟
قد نمثِّل على لغة الكاتب بالجملة التالية: "تمزقت السماء عن رعد عظيم. صمتت دراجة مسعود. مسعود ناقل جيد للكهرباء!". من هنا نكتشف الاستخدام البارع للغة منذر بدر حلوم، التي تختزل وتصور دون أن تدخل في شبهة الجملة الشعرية، التي تهوم وتفتح أبواب الاحتمالات، لكنه هنا يدهشنا بالقول إن مسعود تعرض لصاعقة. الجملة والفكرة والصورة انتهت هنا، لكن الإيحاء مستمر.
يقدم الروائي جملة من الأشياء عن أبطاله الشباب الجامعيين، الذين تستقر انتماءاتهم السياسية في حيز اليسار، حتى لو لم يكونوا منتمين إلى أحزاب، ومن هنا تبدو لغتهم أعلى مستوى مما تبدو عليه الحياة الواقعية البسيطة لأهاليهم، أو للشخصيات الفاسدة والوصولية، أو للضباط الذين يهمهم تنفيذ حرفية أوامرهم؛
وفي كلام الشخصية الرئيسة في الرواية، ينقل الراوي عن درويش، معبراً عن أحلام كيانه "كان لا يعجبه أن يكون هو نفسه مجرد نقطة في ذهن أحد ما، مجرد أحرف على ورقة، يمكن أن تُشطب، فلا يعود له وجود هناك. ثم صار يتساءل إن كان يبقى له وجود حقيقي هنا إذا أُلغي وجوده هناك".
أما درويش نفسه فيقول "الذاكرة نذلة، وليست مخزن حب".
ولأن درويش فنان، درس الفن في الجامعة، ثم في الاتحاد السوفيتي قبل أن يتم ترحيله من ذلك البلد السابق كونه طرح أفكاراً تتناقض مع العقيدة الشمولية، فإنه يلجأ إلى اللغة التي يحبها، وهي صفة الفنان الذي يتقن القواعد فقط كي يقوم بتجاوزها وهدم أسسها "الجمال لا يولد إلا من الحرية. على الرسام أن يترك القواعد، فهي ليست للفن الحقيقي. يمكن لكل إنسان أن يكون فناناً إذا استطاع أن يكون حراً".
وتتقاطع أفكار درويش مع أفكار صديقه الأقرب إلى نفسه، كاسر، والأخير يقدم اتجاهه في الحياة بجملة واحدة "مبدئي يا صديقي هو أن لا أكون في صف الظلم والظالمين. أنا ضد الظلم أينما كان وكيفما كان".
وفي لغة حلوم، نجد وضوحاً صادماً، ولا عجب بعد ذلك أن الرواية ممنوعة من التداول في سوريا، ولعل التطرق إلى الأمراض الطائفية التي استشرت في البلاد لا يحتاج لأقل من هذا الوضوح حتى يتم حذفها من قائمة المسكوت عنه، ما يُحسب للكاتب من رؤية مستقبلية رأت ما يحدث في عام 2011 قبل أكثر من سنتين، أي عام 2009، وهو عام صدور الرواية عن دار الكوكب في بيروت.