اتهم ابن الهيثم في حياته بالجنون وهو عالم موسوعي مسلم اشتهر بتصحيحه لبعض المفاهيم السائدة في عصره عن الضوء وماهيته. فحينما كان يذهب العلماء آنذاك لنظريات أرسطو وبطليموس واقليدس القائلة بأن الضوء يخرج من العين ليقع على الأجسام فنراها، أثبت ابن الهيثم عكس هذه النظريات وأسس علم الضوء والبصريات الحديث وأحد أهم نظرياته وهي أن الضوء يأتي من الأجسام إلى العين وأن الضوء لا يختفي "بإغماض العينين". كان ابن الهيثم حبيس منزله في نهاية حياته لاتهامه بالجنون وقضى ما تبقى من عمره في البحث العلمي حتى توفاه الله في عام 403 للهجره. توفي رحمه الله وما علم أنه كان لزاما عليه توسيع نطاق نظرية الضوء لتشمل المشكلات الاجتماعية، فهي أيضا لا تختفي بإغماض العينين وسد الآذان وتكميم الأفواه.

طالعتنا منظمة الصحة العالمية مؤخرا بتقريرها عن المملكة العربية السعودية في الأمراض غير المعدية (كالسكري، الأمراض الصدرية، القلب والسرطانات) والعوامل المؤثرة بها (كالتدخين، العادات غير الصحية للأكل، عدم ممارسة الرياضة واستهلاك الخمور). هذا التقرير ضم بين جنباته العديد من الأرقام والرسوم البيانية التي أثارت دهشة كثير من الباحثين والممارسين الصحيين حيث إنها لا تعكس الواقع بالشكل الصحيح وحاول البعض أن يعزو هذا إلى آلية البحث العلمي وفرز الإحصاءات المتبعة من قبل القطاعات الحكومية وتوفر المعلومات وغيرها من العوامل.

ولكن الصدمة المهولة كانت باستعراض الجزء الأخير من التقرير وهو المتعلق بالبرامج الوطنية وآليات مكافحة هذه الأمراض المعدية والعوامل المؤثرة فيها حيث تم نفي بشكل قاطع وجود أي آليات أو برامج لمكافحة تعاطي الخمور ومعالجتها. وعند الرجوع للاستفسار عن سبب كلمة "لا" العريضة أمام وجود برامج وجهود وطنية تجاه تعاطي الخمور كأحد العوامل المهمة المؤثرة في هذه الأمراض أتى الجواب صاعقا بأن النظام لدينا لا يسمح ببيعه ولا تعاطيه ولذلك فلا وجود لهذه المشكلة ولا برامج لها!

هذا التقرير مثال لنظام الـ"دويلات الوزارية" لدينا. فقد تم تهميش جهود قطاعات عدة ومن ضمنها قطاعات داخل الصحة نفسها متمثلا بمجمعات الأمل كنموذج على الجهود والبرامج التي تبذلها الدولة وأبناؤها العاملون بها. فكل وزارة تعمل بمعزل عن الأخرى ولا ذكر لأي مساهمات في هذه المشكلة المجتمعية التي تم تغييبها ويعاني من أصيب بها وذووهم بصمت مؤلم لا لشيء إلا لأن القانون لا يسمح بتعاطيه وبيعه.

هذا التقرير الذي أصاب الجهود الوطنية في مقتل أساء لكل من القطاعات التي تساهم بشكل دؤوب في محاربة داء تعاطي الخمور وهي على سبيل سرد الأمثلة لا حصرها: وزارة الشؤون الاجتماعية ومساندتها لأسر المتعاطين والمتضررين ماديا وجسديا ووزارة الداخلية متمثلة بحرس الحدود وجهودهم في إبطال عمليات التهريب والشرطة في التعامل مع بلاغات الجرائم الناتجة عن حالة السكر والمرور وتعامله مع قادة السيارات المخمورين والرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كشف المصانع والخمارات والتي تطالعنا بها الصحف دائما وأبدا ومجمع الأمل الذي يعالج مدمني الكحوليات والتابع لوزارة الصحة نفسها.

الاعتراف بوجود المشكلة بداية الحل، وقد تم الاعتراف متمثلا بهذه الجهود وإن كانت تعاني من قصور فهذا لا يعني انعدامها ونفيها تماما في تقرير دولي. وجود قانون يمنع المشكلة لا يعني بالضرورة عدم وجودها فإنها لو لم تكن موجودة لما نص الشارع سبحانه وتعالى على حرمتها وعقاب مرتكبها. تعاطي الخمور موجود بين أفراد المجتمع، ولا نعلم مدى انتشاره لانعدام الدراسات المسحية من كافة القطاعات، فالمشكلة بنظر المسؤولين التنفيذيين وصمة عار وخط أحمر لا أحد يريد الاقتراب منه. الكل يهرب من المواجهة ومن يعاني يظل يعاني بصمت وألم وفي الظلام وأنى لهم البوح وتقرير دولتهم الدولي ينفي وجود مشكلتهم.

هذا مثال لما يعانيه المواطن من مركزية الوزارات ودوران المواطن في أفلاكها، وهو عكس المفروض وعكس سياسة الدولة وهو أن يكون المواطن محورا ومركزا لخدمية الوزارات ولا بد أن تتقاطع فيما بينها، تتقاطع في المواطن. تقاطعها في التواصل الفعال وأنها ليست بدويلة وزارية لا علاقة لها بنظيراتها.

تعاطي الخمور موجود كوجود الضوء ولا يختفي بإغماض العيون والأكيد أنه لن يختفي بـ"لا" في تقرير دولي. تعاون القطاعات المختلفة ببرنامج وطني لتوحيد الجهود في هذا العامل المهم للأمراض غير المعدية والعامل المهم بتأثيراته الاجتماعية والاقتصادية مطلب مهم للوقوف على حجم هذه الظاهرة لدينا ولفتح قنوات المساعدة لمن أراد من المتعاطين وإعادة تأهيلهم كحق من حقوقهم كمواطنين. هذا التعاون يبدأ بتصحيح المفاهيم على مستوى الفرد ومستوى المسؤولين. يبدأ عندما نؤمن بنظرية ابن الهيثم وأنه سيد العقلاء.