حسب بيانات مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات، هناك (11.8) مليون مواطن ومواطنة في سن العمل، ولكن (3.8) ملايين منهم فقط يعملون في حين أن ثمانية ملايين لا يعملون. أو بعبارة أخرى فإن الثلث، أو إن واحدا من كل ثلاثة مواطنين يعمل في حين أن الاثنين الآخرين لا يعملان. وفي علم الاقتصاد، يُعبّر عن ذلك بمعدل المشاركة في سوق العمل، ويبلغ في هذه الحالة 32%، وهي نسبة متدنية جداً بالمقاييس العالمية، ومؤشر خطير على عدم تحقيق الاستفادة التامة من الموارد البشرية في المملكة.

وبالمقارنة مع الدول الأخرى، فإن معدل المشاركة في سوق العمل في الدول الصناعية السبع الكبرى يتراوح بين 63% في إيطاليا و77 % في كندا. وبالمثل في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، واليابان، والدنمارك، والسويد، وهولندا، تتجاوز نسبة المشاركة في سوق العمل 70%، أو أكثر من ضعف مشاركة المواطنين السعوديين. ولكن الثمانية ملايين سعودي الذين لا يعملون، لا يُعتبرون في تعريف مصلحة الإحصاءات العامة "عاطلين عن العمل"، نظراً إلى أن هذا التعريف يضع اشتراطات كثيرة لاعتبار الشخص عاطلاً عن العمل، فوفق هذا التعريف فإن 450 ألفاً فقط من ذلك الإجمالي، أو 6% ، يُعدّون عاطلين بالمعنى الدقيق للكلمة. ووفق تعريف وزارة العمل، فإن نحو 700 ألف يُعتبرون عاطلين عن العمل لأغراض برنامج حافز الذي بدأ تنفيذه هذا الشهر، وهذا العدد مرشح للزيادة بعد فرز بقية الطلبات المقدمة لهذا البرنامج.

ولو حذفنا من العدد الإجمالي مليونين أو ثلاثة احتياطاً، ممن هم في الفئة العمرية (15-19)، أو متقاعدون، أو عاجزون عن العمل، أو وافرو الثراء ولا يحتاجون للعمل، فإن ذلك يعني أن نحو خمسة ملايين مواطن سعودي هم في منزلة بين المنزلتين، فهم لا يعملون ولكنهم ليسوا عاطلين عن العمل!

فما قصة الملايين الخمسة الذين لا يعملون؟ هل هم في هذا الوضع باختيارهم أم إنهم مجبرون على ذلك؟

لا تُصرّح البيانات الرسمية بتصنيف محدد لهذا الجيش من غير العاملين، سوى أنهم "خارج قوة العمل"، ما هو تفسير هذه النسبة العالية لمن هم خارج قوة العمل، خاصة في بلد مثل المملكة يتمتع بنمو اقتصادي غير مسبوق؟ وهي نسبة كما أشرتُ لا تجدها في الدول التي تعاني من ركود اقتصادي مزمن، فضلاً عن دول تتمتع ـ كالمملكة ـ بمعدلات نمو مرتفع. هل هؤلاء الشباب عازفون عن العمل باختيارهم، أم إنهم لا يملكون المؤهلات اللازمة لشغل الوظائف المتاحة، أم إن توقعاتهم العالية أصبحت حائلاً دون حصولهم على عمل؟

هناك عدة تفسيرات. أحد التفسيرات التي يتداولها الخبراء والمختصون، وهو تفسير مفضل بين الأجانب ويروّج له بعض رجال الأعمال، هو أن معظم هؤلاء الذين لا يعملون لا يرغبون في العمل، بل يفضلون حياة الفراغ والكسل، وأن الشاب السعودي يفضل أن يظل عاطلا عن العمل وينتظر مهما طال الانتظار إلى أن يجد وظيفة توفر له مرتبا عاليا، ولا تتطلب منه جهداً يُذكر، ولا تحتاج إلى مهارات كثيرة أو خبرة في العمل.

وكما رأينا، فإن هؤلاء الذين لا يعملون يشكلون غالبية المواطنين ممن هم في سن العمل، مما يعني ضمناً أننا شعب لا يحب العمل. وهم أمر يتعارض مع التقاليد التي نقدسها، ومع ما نعرفه من تاريخنا. فالجيل السابق، حين أتيحت له الفرصة، كان يبدأ في العمل الجزئي في سن العاشرة، وينخرط في العمل الدائم في سن الخامسة عشرة، أما الجيل الأسبق، جيل آبائنا وأمهاتنا، فقد كانوا يعملون من الفجر إلى غروب الشمس، في أشق الأعمال وأعسرها، ويقبلون بأي أجر إذا كان البديل هو البطالة.

ومن حُسن الحظ أن هناك ما يشير إلى مراجعة جادة على المستوى الرسمي لهذه الفرضيات الظالمة عن الشباب السعودي، فبرنامج حافز يقوم فيما يبدو على فرضية أن الشباب والشابات، في حالة توفرت الظروف المناسبة، سيفضلون العمل والإنتاج على الفراغ.

وتقوم الفرضية الجديدة على أن عدداً كبيراً ممن لا يعملون، وربما الأغلبية، قد أصابهم الإحباط والقنوط من الحصول على عمل مجد، فتوقفوا عن البحث عنه، ويئسوا من الحصول عليه. ولو توفر لهم من يأخذ بأيديهم، ويساعدهم على تنمية مهاراتهم وتطويرها، وإقناع أصحاب العمل بجدوى توظيفهم، لأقبلوا دون تردد على العمل.

وبالمقارنة مع الدول الأخرى التي مرت بتجارب مشابهة، مثل أيرلندا والدنمارك وكوريا وماليزيا وجنوب أفريقيا، فإن عملية التأهيل للشباب المحبط عملية مكلفة وصعبة، لأنها تتطلب عناية فردية بكل باحث عن العمل، في سبيل توفير توافق بين إمكانات الشباب الكامنة واحتياجات سوق العمل. وهذه المواءمة بين قدرات العاطلين عن العمل وإمكاناتهم من جهة، وبين رغبات أصحاب العمل هي ما يجب أن يكون محل تركيز برنامج "حافز". وكما أشرتُ فإن هذه المواءمة مكلفة، ولكن المملكة قد تبنت للعام القادم أضخم ميزانية في تاريخها، وليس هناك أجدر بالإنفاق من برامج يمكن أن تسهم في توظيف الراغبين في العمل وتحويل خمسة ملايين مواطن ومواطنة إلى أعضاء منتجين في المجتمع.