ونحن على وشك موسم الهجرة في الصيف، وسيغزو بعد أسابيع قليلة المصطافون السعوديون بلاد العالم من أقصاه لأقصاه، حاملين معهم فتاوى الزواجات التي تعددت، ولمّا تزل تتحفنا مكينة الإفتاء لبعض العلماء بالمزيد منها، ليتلقفها الإعلام المحلي والعربي ويصنع منها خبطات صحفية ونوادر للمجالس التي تلوك بكثير من السخرية تلك التقليعات العجيبة، التي ابتدأت بزواج المسيار وتمرّ بزواج المصياف، فزواج الاغتراب، والابتعاث، ومسميات لا تنتهي، كلها زيجات مؤقتة فرضتها الظروف على الزوجين، ووجدوا في تلك الفتاوى المخارج الفقهية التي تسوغ لهم مباشرة هذه العلاقة تحت مسمى الزواج الشرعي، بيد أنها جميعها تنتهي بأنها لا تحقق المقاصد الكبرى للزواج في تكوين أسرة مسلمة فاعلة ومنتجة في المجتمع.
ربما كانت أميز زيجة من هذه الموضات وأقدمها؛ هي زيجة الزواج بنية الطلاق، ولا أنسى فتيا شهيرة للشيخ عبدالله المطلق، عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية، ساقها حيال الزواج بنية الطلاق أمام طلبة مبتعثين في مدينة الرياض قبل ثلاثة أعوام، وسرد في ذلك اللقاء الفتوى الشهيرة حول القضية لمفتي عام المملكة السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز يرحمه الله.
في تصوري المتواضع أن أي راصد ومتابع للحركة العلمية الشرعية في بلادنا ليميز من وهلته الأولى ملمحاً يتمثل في خروج علماء جدد (مفردة جدد باتت موضة إعلامية عالمية)، يختطون طريقاً في الفتوى بغير ما اعتاد عليه النهج التقليدي للفتوى الرسمية، وسأخطو أكثر بتبيان رؤيتي هنا لأقول إنني قصدت أن بعضاً من كبار علمائنا انتهجوا في فتاواهم الأخيرة خطاً أقرب للتيسير والرفق والنظر في مصالح المسلمين والخوض في القضايا المعاصرة، ولست هنا في مجال المفاضلة، فكل علمائنا هم ممن نثق في علمهم ورفقهم ولا نزكيهم على الله، ولربما كان المشايخ عبدالله بن منيع وعبدالله المطلق وعبدالمحسن العبيكان هم الأبرز في الاتجاه، فالعالمان الأولان الجليلان دخلا في مجالات الصيرفة والبنوك الإسلامية والتأمين وأفتيا في نوازل فقهية معاصرة متعددة، ورفعا عن المجتمع والأمة بكاملها حرج الفوائد الربوية بجانب ثلة فقهاء جهابذة من عالمنا الإسلامي، لذلك كله كان الاستغراب من انحياز الشيخ المطلق وغيره من كبار علمائنا لإباحة الزواج بنية الطلاق قد بلغ حداً كبيراً لراصد مثلي.
فلا يخفى على علمائنا الأجلاء ما نعانيه مع الغرب سياسياً جراء أحداث 11 سبتمبر، وما لحق بصورتنا التي كنا نزهو بها، وقد خدشتها تلك الأحداث، فضلاً عن ثقلنا الكبير الذي أخلّ به الإعلام الغربي وهو ما فتئ يتفنن في إبراز أية هفوة، ويبحث حتى في غرف نومنا عن سلبيات نقترفها، ليجعل منها قضية القضايا، ويقتات عليها مدعوماَ بفضائيات عربية مجاورة لا تصدّق أن تهتبل هكذا فرص، وتعلمون كيف فعلوا بفتاوى الميكي ماوس وغيرها، وأساءوا لبلادنا وصورتها.
هذا جانب تمنيت على هؤلاء العلماء الذين يفتون -لا في مسائل الزواج فحسب، بل في سائر الفتاوى الشاذة أو التي لا تصلح أن تطرح للعامة- الانتباه إليها، ودونكم ما فعلته فتوى الرضاع للكبير بصورتنا، وقد تلقينا في البُرد الإلكترونية مقالات ورسومات كاريكاتورية هازئة بديننا، وبرؤيتنا لأمور الحياة وطرائق تفكيرنا للأسف في صورة شائهة ومخجلة.
وعوداً لموضوع صيغ الزواج، وما يهمني فيها هو الزواج بنية الطلاق لأن كثيرين من جيلي، وهم يمرون بأزمة منتصف العمر يتعاطون مثل هذه الزيجات المؤقتة، فثمة جانب مهم يتعلق بإنسانية المرأة فيها، وسبق أن قلت ذات مقالة إن زواج المتعة الذي يجيزه الشيعة -على حرمته لدينا- هو أهون على أيّ منصف عاقل من هذا الزواج الذي يقوم على التغرير بالمرأة ووليها، بما انتبه إليه الشيخ ابن عثيمين عليه سحائب الرحمة والغفران. فالمرأة هناك؛ على الأقل تعلم وتدرك أنها ستبقى لفترة زمنية طالت أم قصرت، فتقدم على الزواج أو ترفضه باختيارها وينتفي الغش والتغرير.
وربما يشرق هنا السؤال الحرج بغصة حارقة: هل يرضى من أفتى بالإباحة، صيغة هذا الزواج على بناته؟ وليت شعري أية مشاعر ستكتنفه وهو يطالع ابنته المسكينة تتلوى على سفود القهر والحرقة والفجيعة، دون أي ذنب لها سوى سوء نية هذا الفحل الجبان، وهي التي ربما تركت مصالحها الكبيرة، أو وظيفتها التي كانت فيها، وبنت آمالها الكبيرة على تكوين أسرة متكاملة، وبكل مقوماتها، وقضت أيام خطوبتها تحلم بالذرية والأطفال وأن تكون أمّاً، بيد أنها تفاجأ بكونها ألعوبة أو تسلية لبعض الوقت لهذا الفحل القميء، ومن ثم تجد نفسها مرمية كقطعة أثاث مهمل، استنفد أغراضه وانتهت صلاحيته، لترمى بعد أشهر قليلة، وتمضي مكسورة مقهورة؛ قد حملت اللقب البغيض: مطلقة، وتبدأ رحلة معاناة جديدة مع المجتمع الذي يسوطها بنظراته المستريبة؛ لتعيش بقية حياتها في جحيم النظرات هذه، إلا أن يتغمدها الله برحمته.
أتمنى من علمائنا الكرام استحضار المستجدات التي دهمت مجتمعنا، والتريث ومراجعة مواقفهم حيال أمثال هذه الفتاوى، خصوصا أن فضلاء منهم يخوضون فيها أمام طلبة في عنفوان شبابهم، وهم على أهبّة الرحيل للسفر، وكان الأولى توجيههم ونصيحتهم بالزواج من بنات مجتمعنا، وأخذ زوجاتهم معهم، وإن لم يتيسّر ذلك فعليهم بالالتحاق بالمناشط الطلابية العامة، والتأكيد على التوجيه النبوي بالصيام، والإشارة بأن قوانين القوم هناك غيرها هنا في المجتمعات الشرقية، هذا من جهة الطلاب، أما من جهة المسافرين فتلك قصة أخرى، وقضية أفجع.