في مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي أطلت علينا ميزانية الخير لهذا العام وهي العاشرة على التوالي في تجاوزها للأرقام القياسية. قدمها خادم الحرمين الشريفين مطالباً الوزراء بتأدية الأمانة والحرص على رفاهية المواطن كما فعل في العام السابق وكل عام. ومع كل الثقة بحرص المسؤولين على إنفاذ أوامر الملك فإن الذي يغيب عنا من الناحية العملية هو ترجمة هذه الأماني إلى برنامج عملي لقياس الأداء. برنامج كهذا يعتبر كفيلا بشحذ الهمم ومضاعفة الجهود وتذليل كل العقبات وفرز المتميزين عن الفاشلين. صحيح أن بعض الوزارات تتفوق أحياناً على الخطط من حيث جودة الأداء ولكن الصحيح أيضاً أن وزارات أخرى تخفق في تحقيق أهدافها. أتذكر في القطاع الخاص جلوسي أمام رئيسي في عدة مقابلات تفاوضية قبيل الإعلان عن خطة العام القادم لتحديد المهام المنوطة بي. هو يطلب الكثير وأنا أفاوضه على التخفيض حتى أضمن التفوق أو على الأقل أبتعد عن الفشل. بعد أن أتفق معه أذهب أنا لأفاوض من يعملون تحت إدارتي وأمارس معهم نفس الأدوار التي كان يمارسها رئيسي معي. وللحق فإن هذه المقابلات كما أذكر كانت الأصعب في حياتي العملية. كنت أحاول بذل الجهد في إقناع رئيسي أن مطالباته عالية وأنه لا يمكن تحقيقها. لكنه في الغالب ينتصر ويفرض شروطه مما يدفعني إلى مضاعفة الجهد مع الكثير من الهم والقلق والخوف من الفشل. البرنامج المتبع آنذاك يسمى (سمارتس) وهو مصطلح معروف لدى الشركات الكبيرة.

سمارتس يعني تحديد أهداف معينة تسبق فترة التنفيذ المحددة يتفق عليها أقطاب الهيكل التنظيمي بدءا من الرئيس التنفيذي إلى مديري الأقسام المتدنية في الهيكل. مكافآت الإنجاز أو ما يسمى بالـ(بونص) تعتمد بشكل كبير على نجاح المسؤول في تحقيق هذه الأهداف. مجلس الإدارة يضع سمارتس للرئيس التنفيذي الذي بدوره يوزع هذه الأهداف على نواب الرئيس وهم بدورهم يوزعونها على مديري الأقسام وهكذا حتى تصل تفرعاتها إلى أصغر مسؤول في الشركة. نجاح كل فرد في هذه المنظومة في تحقيق أهدافه يعني أوتوماتيكياً نجاح رئيس الشركة وبالتالي حصوله على المكافآت التي اشترطها على المجلس عندما قبل بالوظيفة. وهكذا فإن نجاح أي نائب رئيس هو الآخر نجاح لكل المسؤولين من تحته وهذا يعني استحقاقه واستحقاقهم للمكافآت المحددة.

لنتخيل، للإيضاح فقط، أن المملكة شركة كبرى تضم عدة شركات متفرعة. لو تخيلنا ذلك فإن الملك حفظه الله هو رئيس مجلس الإدارة. ومجلس الإدارة يتكون من المستشارين والخبراء في الديوان الملكي. أما رؤساء الشركات الفرعية التنفيذيون فهم الوزراء. إذاً فالوزير في الدولة إنما يمثل رئيس شركة متفرعة معينة كما في الشرح السابق. هذا يعني أن الوزير مسؤول مباشرة وبطريقة علمية مخطط لها مسبقاً عن تحقيق أهداف محددة وهي السمارتس الخاصة به والمتفق عليها مع وزارتي التخطيط والمالية. فشل هذا الوزير في ترجمة الأهداف إلى واقع يعني بكل بساطة عدم أهليته للمنصب بينما تفوقه يعني استحقاقه للمكافآت المتفق عليها. لو تحول الخيال إلى حقيقة، وهذا ما أتمناه، فإنه يتوجب على الحكومة أن تستعين بجهة مستقلة لتنفيذ مثل هذا البرنامج (مراقبة الأداء) على مستوى الدولة. ما الذي يمنع مع هذا الإنفاق الهائل غير المسبوق توظيف مثل هذه الجهة بحيث يتفرغ عدد كبير من خبرائها لمراقبة أداء الوزراء في المملكة؟

الذي يدفع المراقب لطرح مثل هذا الاقتراح هو هذا الجدل القائم في كل عام حول الميزانية ونتائجها. بعض القطاعات الحكومية فشلها يسبق نجاحها بأميال. لنأخذ على سبيل المثال قطاع النقل. هذا القطاع وتحديداً داخل المدن يئن تحت وطأة التقهقر. لا توجد شركات لسيارات الأجرة آمنة ونظيفة. لا توجد وسائل نقل بين الأحياء يستطيع المواطن الاعتماد عليها. لا يوجد ربط فعال بين المدن عبر شبكة سكك حديد مثلاً. هذه أمور بديهية وكان يجب أن تسبق النهضة التي نعيشها اليوم لأنها تعتبر بنى تحتية يفترض أن تتنبأ بالتمدد العمراني ومشاكل النقل قبل وقوعها. وما قيل عن النقل يمكن أن يقال على القطاع الصحي الذي لا أرى حاجة إلى تكرار ما قلته عنه سابقاً تكراراً ومراراً. وماذا عن التعليم ورداءة المباني وانخفاض جودة المعلمين والمعلمات والبطء غير المبرر بتنقية المناهج وتطوير وسائل التدريس. الكهرباء والماء هي الأخرى متخلفة عن الركب. فللتو انتبه القائمون على الكهرباء والماء أن المدن السعودية بحاجة إلى هاتين الطاقتين أكثر مما كان مخططاً له في السابق. أما غياب أنظمة المرور واستمرار تهور السائقين فحدث ولا حرج. فقيادة السيارة في المملكة أصبحت تشكل حالة من التندر والسخرية والأمراض النفسية للعقلاء. وفيما عدا ما تحقق مع برنامج ساهر، مازالت الفوضى هي سيدة الموقف في الطرقات وما زالت هيبة رجل المرور أو رجل الدوريات في مستويات متدنية جداً. لو طبقنا نظام سمارتس على رئيس المرور في المملكة ووضعناه أمام الأمر الواقع فحتماً سيبحث عن حلول. ولو كنا نطبق سمارتس على مسؤولي الصحة والتعليم والكهرباء والماء لما وجدنا أنفسنا في أزمات.

ما أريد أن أصل إليه أنّ الفترة المعاصرة هي فترة ازدهار غير مسبوقة. الوطن الذي بين أيدينا هو وطن المستقبل وكل ما نقوم به اليوم هو بناء هذا الكيان بتصميم يجعله أكثر قدرة وتحملاً على الصمود والبقاء. عندما نتأخر في تطبيق مبدأ المراقبة العلمية فإننا في الواقع نغامر في مدة التنفيذ وهذا يعني أن تعويضها أو الإسراع بها سيأتي بمبالغ أكثر كلفة وسيتسبب في أزمات لوجستية كونه يأتي دفعة واحدة دون تدرج. وقد قيل إن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. بلادنا ولله الحمد تزخر بالكفاءات التي تنتشر في أنشطة القطاع الخاص. رجال ونساء مشهود لهم بالتفوق والإبداع. خدمة الوطن بالنسبة لهم شرف يتمنونه حتى لو كانت المداخيل المالية الحكومية أقل مما كانوا يتقاضونه في وظائفهم اليوم. هذا ما يحدث في الغرب وفي كل مكان عندما تتم إعارة مسؤول متميز ومتفوق في شركة معينة إلى الحكومة لتأدية مهمة في أربع سنوات يعود بعدها إلى وظيفته السابقة. تفوق الغرب علينا في الكثير من الخدمات ليس لكون ما يقومون به صناعة نووية. السبب الرئيسي هو وضع الشخص المناسب في المكان المناسب مع المراقبة المستمرة والتطبيق الصارم لمبدأ الثواب والعقاب.