أكتب هذه السطور وكلنا في معمعة الامتحانات النهائية لعشرات الألوف من الطلاب. فيما يخص جامعاتنا نستطيع القول بأن الله قد أكرمها كثيرا حيث قامت الدولة بتوفير ميزانيات ضخمة حركت الجبال داخل الجامعات.. لكنها، وللأسف، لم تستطع تحريك البشر كما يجب. هنا أتحدث عن جامعة الملك عبدالعزيز التي أتيحت لي فرصة لأمتحن طلابي في قاعة ضمن المباني الجديدة التي شيدتها الجامعة. المباني والقاعات والفصول الدراسية، في نظري، تم بذل جهد خارق في تخطيطها ومتابعة تنفيذها وإلا ما ظهرت بهذا الشكل الذي يؤكد أنها ستبقى بإذن الله سنين طويلة لأجيالنا القادمة.
تم اختيار أفضل الخامات في إنشاء المباني ذات الكفاءة العالية في تصميم مخارج السلامة. تم تركيب الأبواب والكراسي المريحة لجلوس الطالب في المحاضرة إضافة إلى الإضاءة والتكييف المناسبين والسبورات الحديثة وتجهيزات وشاشات العروض الإلكترونية وتوصيلات شبكة الإنترنت. الحق يقال ليس هناك على وجه الأرض أفضل من هذه الفصول الدراسية من حيث الجودة.
عندما قلت في بداية المقالة: استطعنا تحريك الجبال كنت أعني هذا. استخدمت الجامعة كل طاقاتها وخبراتها لإخراج أفضل بنية تحتية للتعليم الجامعي من خلال المقاولين الذين قاموا بالتنفيذ. مشكلتي دوما ترتبط بما بعد الإنشاء وهي ذات علاقة بتوفير الموارد البشرية القادرة على إدارة وصيانة هذه المباني. هذه المشكلة لا تعاني منها الجامعة بل أغلبية الأجهزة الحكومية، حيث تنفق أموالا طائلة في البناء ثم يأتي دور الصيانة والنظافة والحراسة التي "نبخل" عليها فتتراجع الخدمات في المبنى بعد سنوات قليلة.
واقع الحال يقول بأن صيانة المباني والتكييف والنظافة والحراسة لا ينفق عليها الكثير بما يوازي الاستثمار الضخم في عملية التشييد ولا يوظف لها من الكفاءات البشرية المدربة والقادرة على هذه المهام، وإذا تم توظيف البشر فكثير من الأحيان تدفع لهم رواتب متدنية ولا يتم توجيههم أو تدريبهم أو محاسبتهم. النتيجة معروفة هنا أعطال للأجهزة وتآكل في المبنى. هنا لا ألوم الجامعة بقدر ما ألوم أنظمة المالية والخدمة المدنية التي زرعت في مفاصل جميع الأجهزة الحكومية وأصبحت تكبح العمل المخلص والجاد من كل موظف يريد أن يكون مخلصا وجادا في عمله. هذه الأنظمة التي كان هدفها منع التلاعب والفساد هي نفسها التي تدفع المسؤول إلى الالتفاف حولها. في النهاية الأنظمة نفسها تشجع ما أرادت أن تمنع.
إن النجاحات التي نحققها في بناء الحجر يجب أن يواكبها نجاحات في بناء البشر. والحقيقة لا أعلم كيف نستطيع أن نبني البشر إذا كان هؤلاء البشر منشغلين عن وظائفهم في التفكير في حاجاتهم واحتياجات أسرهم المادية والمالية. إن فشلنا في إعطاء كل ذي حق حقه من الأجر العادل والمزايا الوظيفية مثل العلاج والسكن للعاملين يعد اليوم من أهم العوامل التي تشجع على التسيب واللامبالاة التي نراها بين مختلف فئات العاملين من حولنا. إشباع حاجات الموظف الأساسية، وليست الكمالية، سيوفر مناخا إيجابيا للعمل الجاد والمخلص، وحينها سيتوجه فكر الموظف للعمل ولن يتحجج بعدها بأعذار متكررة وواهية وحينها أيضا سيتمكن رئيسه في العمل من متابعة موظفيه في كل إنجاز لم ينجز في وقته بدلا من الإشفاق عليهم وعلى أوضاعهم.
نحن نقول دوما بأن الموارد البشرية هي ثروتنا الحقيقية.. أستغرب كثيرا كيف تتخذ وزارة الخدمة المدنية "إن خير من أستأجرت القوي الأمين" شعارا لها وهي تعلم أن هذا "القوي الأمين" الذي أستأجرناه يحتاج إلى أن يقتنع هو أولا بأنه بالفعل "قوي وأمين". وكيف يقتنع ولسان حاله ووضعه المادي لا يمكنه من ذلك.