أسأل الله تعالى أن يبارك في الميزانية، وأن يحقق بها آمالنا وفوق آمالنا وبعد؛ فلقد أعادني إعلان خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ورعاه ـ للموازنة الأسبوع الماضي للتاريخ بعمومه، ولبعض الأشخاص الذين ساهموا في الميزانية قديماً وغاب عنهم الصيتُ المستحَق. وللتمهيد أذكر أنه في عام 1343 ـ 1924 كون جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن ـ رحمه الله ـ بمكة المكرمة مجلساً أهلياً جعل من أبرز مهماته إعداد الميزانية. وفي عام 1345 أصدر جلالته قراراً بتشكيل مجلس إدارة لتدقيق الأوراق المالية، ثم تلا ذلك تشكيل لجنةٍ للأنظمة المالية. وفي عام 1346 انشأ رحمه الله في مكة (مديرية المالية العامة). وفي عام 1351 صدر أمر جلالته بتحويل المديرية إلى (وزارة)؛ ارتبطت بها العديد من إدارات الدولة، وأصبحت مسؤولة عن تنظيم وحفظ أموال الدولة، وجبايتها، وتأمين طرق وارداتها ومصروفاتها، والمرجع العام لعموم الماليات. وفي عام 1352 عرفت البلاد ميزانيتها الرسمية الأولى.
من الشخصيات التي لها علاقة بالميزانية الأولى، وغابت عن الذاكرة الشيخ حسين بن محمد سعيد بن صديق جستنية، وعمي السيد علي بن حسن فدعق ـ رحمهما الله ـ الشخصية الأولى العم الشيخ حسين جستنية مكي مشهور بوطنيته المميزة، وبالعفة والنزاهة، والاستقامة والأخلاق العالية، ومن أهم مراحله العملية أنه عمل موظفاً في ديوان الخزينة الخاصة لحكومة الملك عبد العزيز، وعين مراقباً عاماً في وزارة المالية، ثم مديراً عاما لها. والشخصية الثانية عمي السيد علي فدعق الذي اُبتعث إلى العراق لدراسة الحقوق، وبعدها ذهب إلى مصر مبتعثاً أيضا، والتحق هناك بوزارة المالية بناءً على كتاب من وزارة المالية، ودرس الميزانيات، وتمرن على تحضيرها علمياً، وأخذ شهادة بها.. للشخصيتين السالفتين مع الميزانية قصة مشتركة؛ فالسيد علي بعد فترة من عودته من الدراسة صدر قرار تعيينه كمسجل رواتب بوزارة المالية، وظل كذلك حتى تم تعيين الشيخ حسين جستنية مديراً جديداً للمالية، فأقعده أمام خبراء ماليين لاختباره، فأجابهم عن أسئلتهم عن رأيه في الميزانية، وبين لهم النماذج التي يجب استخدامها لإِعدادها، فرشحوه بعدها على وظيفة مدير عام الميزانية، وقام وبتشجيع من معالي الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان المشهور بابن سليمان، وسعادة الشيخ حسين جستنية بعمل أول ميزانية للدولة على أسس سليمة من كتاب دوري وخطوط عامة للميزانية، ونماذج وإيرادات مضبوطة، ومصروفات مضبوطة تقوم على استقصاء لما يورد واستقصاء لما يصرف بعد السؤال، حتى اكتمل إعدادها، وصادق عليها جلالة الملك عبد العزيز.. ومن القصص الطريفة أن السيد علي لما قدم الميزانية إلى جلالة الملك، وضع خاتمه على كل ورقة منها في المكان المخصص لذلك، ولحرصه على السُّنة سأله: هل أنت حالق ذقنك؟ أم لم تطلع لحيتك بعد؟ فقال له: لم تطلع بعد طال عمرك.. وللتاريخ أيضاً أذكر أن السيد علي فدعق هو أول من اقترح إصدار الميزانية في شهر رجب، بعد أن كانت تصدر في ربيع الآخر، وقبل ذلك في محرم، وكانت من أهم تبريراته لاختيار رجب الاهتمام بموسميْ الحج ورمضان. وظل السيد علي مديراً للميزانية حتى عين ممثلاً مالياً بالوزارة، وقاده قدر الله بعد لرئاسة بلدية جدة.
دعاء:
أسأل الله أن يرحم جميع من ذكرت، وأخص بالذكر أديبنا الشهير الشيخ محمد حسين زيدان، صاحب المقولة الخالدة: "نحن مجتمع دفَّان".. اللهم لا تجعلنا ممن ينسى المناقب ويدفنها، ويتذكر المثالب ويظهرها.