العلاقة بين المثقف والواقع تشوبها الكثير من الضبابية الفكرية لأن الواقع متحول في طبيعته، والذي بدوره يؤثر على كل الأفكار والقضايا التي يتعامل معها أو ينظر المثقف فيها ولها ومن أجلها. وعلى أساس أن الواقع هو المرجعية الفكرية التي لا بد أن يتعاطاها المثقف فقد يصبح مع الوقت أقرب إلى مهرج ثقافي ليس أكثر، بحكم غروره الثقافي الذي لا يجعله يفهم هذه التحولات التي من شأنها تغيير كل المحيط الذي نشأ فيه المثقف، حتى في أخص خصوصيات حياته اليومية، فيصبح المثقف عاجزا عن مواكبة التطورات في محيطه فضلا عن مواكبتها في ما هو أعلى شأنا من يومه الصغير.
الديناصورات الثقافية التي تخرج في كل مكان، وتريد أن تكون هي لب مجالس المثقفين، صارت تشوه الواقع الثقافي وتشده إلى أسوأ مما هو عليه، بحكم أن هذه الديناصورات الثقافية تشكل وعيها الثقافي في ظل ظروف كان فيها الواقع أكثر بساطة مما هو عليه اليوم. لذلك تكرست ديناصورية المثقفين المخضرمين في أكثر من منبر ثقافي، فأصبح الواقع نفسه أشبه بسينما كبيرة ثلاثية الأبعاد تعرض على ناظريك ومسمعك متحفا ثقافيا تاريخيا يتجول أمام بؤبؤ عينك الصغيرة، لتعطيك نموذج المثقف الذي تكرست صورته منذ فترة طويلة فأصبحت أكثر من مملة حتى لدى المثقف نفسه.
وتأتي المؤسسات الثقافية لتعزز هذا الشعور لدى الأجيال الطالعة، ولتكرس مفهومية المثقف الديناصوري ولتضعه في المنصات المنبرية ليقوم بدور بائس انتهى منذ فترة طويلة ولم يعد يهتم لكلامه أحد من الحاضرين ليجتر ماضيا سحيقا لم يعد له أي وجود مع التحولات الحالية في الثقافة والمدة الثقافية والتقنيات المعاصرة التي أخرجت النخبوي من الواقع تماما، لتجعله يعيش في ماضويته الخاصة والخاصة به فقط. طبعا لهؤلاء الديناصورات الثقافية كافة الاحترام والتقدير، لكن عليهم أن يفهموا أنهم أصبحوا ديناصورات ثقافية وأن يتعاملوا مع هذا الوضع كذلك. التقدير مهم لمثل هؤلاء، لكن أن يعيدوا أسطوانات الماضي السحيق فهذا غير مقبول ثقافيا في ظل متغيرات معاصرة تفرض على المثقف إعادة التفكير في ذاته الثقافية قبل التفكير في الواقع المحيط.
من المهم تكريم هؤلاء، كونهم جاؤوا في مرحلة ثقافية ماضية يوم كانت الثقافة حفظ نصوص تكرر في الجامعات وغيرها، لكن ألا يتعدى ذلك إلى محاولة تكريس بقائهم في الواقع المتغير.. الواقع الذي يرفضهم ثقافيا قبل أن يرفض كل أطروحاتهم القديمة. الواقع الذي يصر على أن يريهم ديناصوريتهم الثقافية وهم يتعامون عنها وقد أصابهم الترهل الفكري والعجز المعرفي.
المؤسسة الثقافية أصابها ذات الترهل الثقافي، فلم تعد تستطيع مسايرة الواقع الثقافي لأنها مؤسسة بنيت توجهاتها الفكرية وفق منطق تاريخي انتهى هو الآخر، ووفق ظروف تاريخية قديمة ليست ذات أهمية معرفية لواقعنا المتحول. ولذلك فإن المؤسسة أصبحت عاجزة عن مسايرة الواقع الجديد، بل هي متأخرة تأخرا كبيرا، وفي تراجع وليس في تقدم مهما حاول المسؤولون "ترقيع" الواقع الثقافي في تلك المؤسسات بتصريحات من هنا أو هناك، أو بكلمة رسمية تلقى في مهرجان ثقافي ليس له أي صلة بالواقع الذي جاء المهرجان من أجله.
في ملتقى المثقفين الذي انتهى قبل يومين كانت ذهنية الديناصورات الثقافية حاضرة وبقوة، حتى أصبح الملتقى ذاته أشبه بمتحف تاريخي يلقي فيه الكثير من المثقفين الكثير من الكلمات التي ليس لها صلة بالواقع الذي نعيش فيه، وباستثناء جلستين فقط من جلسات الملتقى وهما: (دور المرأة الثقافي) وجلسة حول (الموسيقى والتراث الشعبي) فإن الجلسات الأخرى لم تقدم أي جديد ولم تضف أي إضافة ولم تطرح رؤية جديدة. بعض الأوراق كانت استنساخ مع تعديلات من هنا أو هناك لملتقيات سابقة. الدكتورة وفاء السبيل أظهرت في ورقة لها أنه لم يعمل أي شي من التوصيات التي رفعت قبل حوالي خمس سنوات إلا توصية واحدة.
المداخلات الثقافية فضائح ثقافية فما بين التطبيل لعض المسؤولين الحاضرين أو مداخلات تفضح الوعي المعرفي المتراجع وشهوة الثرثرة الثقافية التي لا طائل منها حتى يمكن أن تجد مداخلات ليس لها أي علاقة بموضوع المحاضرة نفسه. مع سرد بعض التجارب التافهة والتي لا قيمة لها لدى المثقف عن موقف حصل بكذا وكذا في مكان كذا وكذا ليتحفنا في ما بعد عن أهمية الحفاظ على موروثنا الثقافي وإبرازه وهذا كلام مكرور وممل.
من المزعج كثيراً أن تجد عناوين تدور في إطار البديهيات الثقافية والعملية، كما هو من المزعج ألا ترى لتلك البديهيات أي وجود على أرض الواقع. التوصيات التي أطلقت قبل خمس سنوات وأعيد تكرارها قبل سنتين مع ملتقى لأدباء تعاد مرة أخرى للطرح وكأننا نعيد اختراع العجلة.
الملتقى ينم عن أن الخلل الثقافي كبير فحين يتم تكرار المشهد الثقافي ذاته كل مرة فهذه كارثة ثقافية لا بد أن نلتفت إليها، لكن يبدو أن المؤسسة الثقافية أصبحت مترهلة كثيرا بحيث لا تستطيع ترميم نفسها فضلا عن الإتيان بجديد.
إننا في واقع متغير بشكل كبير، وليس من المهم التماس مع هذا الواقع بشكل مباشر، لكن من المهم أخذ اعتباره، فالطموحات الثقافية ليست في وجود مكتبات أو غيرها؛ بل أوسع من ذلك بكثير. إنه يمس سؤال المثقف نفسه وأهميته الثقافية، ويمس سؤال الواقع ويمس سؤال التحولات وعلاقة المثقف معها، بل ويمس سؤال الحرية الثقافية والقرار الثقافي الذي يجد المثقف نفسه خارج لعبتها تماما.