في غرفة انتظار أحد المستشفيات مشهد يتكرر بشكل يومي، مريض يسأل الجلوس عن رأيهم بطبيب ما، وفي ركن ثان شخص يذم طبيبا آخر، وفي غرفة انتظار نسائية مجاورة أم بسؤال حائر عن أفضل طبيب لفلذة كبدها، وامرأة متحرجة تسأل بهمس عن طبيبة لتبث لها مشكلتها. هذا المشهد في عام 2011، وهو المشهد ذاته الذي عاشه أجدادنا في زمن الحكماء والحلاقين مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف المباني والأثاث والأدوات.

المرض لدينا هو بداية رحلة طويلة في التعرف على قدرة المواطن على الصبر واستنباط الأحكام وتلخيص الخبرات فيما يخص الأطباء والمؤسسات الصحية.

تبدأ الرحلة بالسؤال عن أحسن الأطباء عن طريق الاتصالات الخاصة ورسائل الجوال والبلاكبيري وتويتر، فكل يدلو بدلوه، ومن ثم تليها مرحلة البحث عن طريقة الوصول لهذا الطبيب المرشح إما بالواسطة لعيادته في أحد المستشفيات الحكومية أو بدفع مبلغ وقدره في عيادته الخاصة التي قد توازي أحيانا مدة الانتظار فيها مدة الانتظار بعيادته الحكومية.

يأتي اليوم الموعود ويذهب المريض إلى الطبيب المشهور ليتفضل عليه ببضع دقائق في عيادته الحكومية لتصل إلى نصف ساعة إن كان محظوظا في عيادته الخاصة. ويبدأ الحكيم بالإفتاء الطبي، فالمريض يقف حائرا أمام فتواه التي تجب كل ما سبقها من فتاوى طبية، وما بين "أنا أرى" تتوسطها جمل مبهمة لا تخلو من مصطلحات لاتينية كإثبات لما تعلمه من طب، ناهيك عن الويل والهلاك لو حاول هذا المريض المسكين ممارسة حقوقه كمريض وقام بسؤال الطبيب عما استند إليه فيما "يراه". أما إذا كان هذا الطبيب المرشح بمزاج جيد فالإجابة تأتي من خبرته التي قد لا تتجاوز بضع سنين قضاها كمتدرب زمالة في أحد الأصقاع.

يقتنع هذا المريض بهذا المرشح، كيف لا وهو قد وصل لمراتب متقدمة في قائمة الأطباء الأكثر مبيعا حسب وكالة يقولون. ومن ثم يمر بالتجربة وقد تصيب وقد تخيب، فإن أصابت فقد كسب مرشحنا نقطة، وإن خابت فيجر مريضنا أذيال الخيبة ويعاود السؤال وإرسال الرسائل عن أفضل الأطباء لحالته.

السيناريو أعلاه هو وليد نقص وعي "حقوقي" صحي في المقام الأول لدى المرضى، ومن ثم غياب الرقابة العلمية لمنهجية الممارسات الصحية.

إن التوجه العالمي للطب المبني على الأدلة والبراهين هو للقضاء على تعددية الآراء الطبية وتوحيد الممارسات الطبية، ومن ثم الرقي بالخدمات الصحية، فالمريض في قرية نائية يحصل على نفس الرأي الطبي الذي يعطى في مستشفى في الرياض. وهذا المنهج الموحد هو ما قامت عليه الأنظمة الصحية الفعالة في الدول المتقدمة بخدماتها الصحية، فالمريض لا يحتاج أن يقوم بالدوران والبحث والسؤال عن أحسن الأطباء، لعلمه أن منهجية الممارسة الطبية تقوم على "أدلة صحية وطنية". هذه الأدلة تضمن للمريض أيا كان موقعه الحد الأدنى من الرأي الطبي الصحيح القائم على الدراسات العلمية المحلية والعالمية، فمريض جلطة القلب سيعلم أن التشخيص والعلاج الذي يتبعه سيكون موحدا لوحدة منهجية التشخيص وآلية العلاج، ولا يأتي دور الإفتاء الطبي كما كنا نمارسه أيام الحلاقين إلا في ما استعصى على الدراسات والبحوث وهو النادر.

الأدلة الصحية الوطنية هي مطلب وطني ملح في ظل فقدان الثقة بالنظام الصحي المتزايد بين الجمهور، ولهذه الأدلة فرعان رئيسيان: أدلة لمقدمي الخدمات الصحية من أطباء وغيرهم وأدلة للمرضى وذويهم.

مفهوم الأدلة الصحية الوطنية ليس باختراع جديد، ففي الولايات المتحدة الأميركية، هناك مركز تبادل معلومات توجيهي صحي وطني يجد فيه الطبيب والممارس الصحي كل ما يحتاجه من خطوات متفق عليها في التشخيص والعلاج والوقاية والتوعية، وتحميه من المحاسبة القانونية إن اتبعها، وأيضا يوجد قسم للمرضى لتثقيفهم عن هذه الأدلة الصحية، وبالتالي رفع الوعي الحقوقي الصحي. هذا المركز الوطني الأميركي قام على مراكز متعددة للطب المبني على البراهين، ونحن نمتلك عددا من المراكز والمراجع المحلية متمثلة بكرسي الشيخ عبدالله باحمدان لأبحاث الرعاية الصحية المبنية على البراهين العلمية والتطبيق العملي للمعرفة بجامعة الملك سعود وأيضا المركز الوطني الخليجي للممارسات الصحية المبنية على البراهين بجامعة الملك سعود. إذا فنحن نملك البنية التحتية للقيام بمشروع وطني لإصدار أدلة صحية وطنية، قائمة على بيانات محلية، وبوجود خبراء محليين من أبناء وبنات هذا الوطن في هذه المراكز والكراسي البحثية.

ربع سكان المملكة العربية السعودية مصابون بداء السكري ولم تصدر أي أدلة صحية وطنية لمجابهة هذا الوباء إلا في مجال الوقاية متمثلا بالمرجع الوطني لتثقيف مرضى السكري الصادر من وزارة الصحة عام 2011 وهو جهد يشكرون عليه، خاصة أنه الأول منذ إنشاء وزارة الصحة عام 1951. ولكن ماذا عن التشخيص والعلاج والتأهيل؟ كيف يترك علاج ربع سكان المملكة المصابين بداء السكري لآراء ومدارس علمية طبية مختلفة غالبا ما تكون عالمية لم تثبت فاعليتها محليا؟! يكفي أن تسأل أحد مرضى السكري ليطالعك بمعاناته في اختلاف الآراء في طرق علاجه، ليس بين المؤسسات الصحية المختلفة فحسب وإنما أحيانا بين أطباء المنشأة الصحية ذاتها!

داء السكري مثال من أمثلة عديدة لإيضاح أهمية وجود الأدلة الصحية الوطنية وتفعيلها إداريا وقانونيا. هذه الأدلة أيا كانت تشخيصية؛ علاجية أو وقائية ستوحد من منهجية الممارسة الصحية في المملكة، وهذا بدوره سينعكس إيجابا على صحة المواطن وتعزيز ثقته والمحافظة على مال المواطن وأموال الدولة من الهدر في رحلة التجوال أو تصحيح الأخطاء الطبية.

خبرة الطبيب وسنوات الممارسة مهمة، وقد يعتقد البعض أنها ستهمش متى ما تم إصدار هكذا أدلة وطنية، ولكن العكس صحيح؛ فمن شروط هذه الأدلة الصحية أن تجدد وتراجع بشكل دوري بمستجدات الطب والأبحاث مع التغذية الراجعة من قبل ذوي الخبرات العريقة طبيا، ولا ننسى رأي المرضى وتوجهاتهم واحتياجاتهم.

إلى أن يتم إقرار مشروع الأدلة الصحية الوطنية للمملكة العربية السعودية، سنترقب وإياكم قائمة مبيعات الأطباء في شباك تذاكر الحكماء والحلاقين.