تحدثنا كثيراً عن أهمية البحث العلمي في تقدم الشعوب ورقيها وكيف يمكن للبحث العلمي أن يدعم الاقتصاد ويرتقي بالدول والأمم والشعوب. وتحدثنا (جميعا) عن تدني مستوى البحث العلمي حتى ذهب أكثرنا إلى جلد الذات بتقدم دول صغيرة وناشئة علينا.
ثم ها نحن نجلد ذواتنا وغيرنا عندما بدأت بعض مؤسساتنا مبادرات علمية على خطى أكبر مؤسسات البحث العلمي في العالم، ناظرين إلى تلك المبادرات بمنظار نصف الكأس الفارغ لأن تقريراً هنا أو رأياً هناك (قرر) ممتلكاً زمام الحقيقة (كل الحقيقة) أن تلك المبادرات فاسدة وباطلة وتستحق العقاب والاسئصال.. غير آبهين أو مدركين للنتائج الوخيمة التي تنطوي عليها مثل تلك الآراء.. لكلٍّ الحق، كل الحق، أن يمارس دوره الموضوعي والمهني في إجلاء الحقيقة، لكن الأمور في بعض القضايا (ومنها هذه القضية) أخذت مناحي غير موضوعية يخشى أن تقضي على المبادرين والمبادرات وتشكل لديهم شعورا بالإحباط والتردد في اتخاذ مبادرات، وهنا نبقى كما كنا وتبقى ميزانياتنا كما هي، وتكون مهمتنا الأساسية الاستمرار في جلد ذاتنا وتقطيع أوصال بعضنا بعضا.
الإنجازات تتطلب مبادرات ومغامرات وركوب الأخطار مع احتمال الفشل في عددٍ منها قبل أن تنحج واحدة لتعوض كل تجارب الفشل تلك، أقول ذلك تعليقاً على تقرير مجلة ساينس حول بعض جامعاتنا التي تعاقدت مع بعض المتميزين من المؤسسات والأفراد من حملة جائزة نوبل، ومع الذين لهم إنجازات علمية مميزة للاستفادة من خبراتهم من مبدأ: إذا أردت التميز يجب أن تعمل مع المتميزين، وهنا يجب أن ندرك حقيقتين:
الأولى: أنه ليس من السهل على الإطلاق جلب أو التعاقد مع العلماء وأصحاب الإنجازات العلمية المميزة، وأن شراء جزء من وقتهم أو خبرتهم يعد إنجازا كبيراً ومن يرى غير ذلك فليجرب أو يسأل.
الثانية: أن جلب مثل هؤلاء أو شراء خبراتهم له ثمن باهظ.
ولهذا لا بد من العمل معهم بشكل متواضع مبدئياً لتهيئة أرضية جيدة لمزيد من التعاون ومزيد من الشراكة كلما تقدم الوقت، هذه حقيقة ما أراه في هذا الموضوع، وثقافة البحث العلمي المرتبط بالاختراعات والاكتشافات بطيء بطبيعته، ولذا أرى أن ما ورد في تقرير مجلة (ساينس) إجحاف على جامعة الملك سعود والملك عبدالعزيز لأمور عدة:
أولاً: العنوان: "الجامعات تشتري التميز الأكاديمي" يقرر حقيقة سلبية واتهاماً خطيرا غير مدعوم في ثنايا المقال ويعطي انطباعاً بصحة ما جاء فيه على ظاهره، حيث تقرر المجلة في ثنايا المقال وفي مقالات سابقة حسن تصرف الجامعات السعودية وذكاء مواقفها في طرق أبواب عديدة ومتقدمة للارتقاء بالبحث العلمي وتوسيع دائرة تعاملاتها مع مؤسسات التعليم والبحث العلمي العالمية والأكاديمية بأساليب وطرق مرنة، وأن تلك الجامعات تعرف العمل الأكاديمي جيداً.
ثانياً: نتساءل عن بعض محتوى هذا المقال وكيف أنه تناقض مع مقالات سابقة أثنت على جامعات المملكة.
وإذا افترضنا المهنية والمستوى المتميز لهذه المجلة فإننا نظن أن ما كتبته في السابق مبني على مهنية عالية للمجلة، فهل جاء مقالها الأخير عفوياً؟
ثالثاً: أقوال العلماء والباحثين التي وردت في المجلة إيجابية. حيث يقول بروفوسور الرياضيات الذي عمل في جامعة أوهايو الحكومية في كولمبوس "لست قلقاً تجاه العرض.. لديهم المال الذي يريدون البناء به". ويقول قارئ من جامعة كامبردج في المملكة المتحدة: جامعات مرموقة دائماً تشتري سمعة العلماء، مثال ذلك ما تفعله جامعة هارفرد التي تتعاقد مع باحثين بارزين.. وقال بروفسور الرياضيات سيرندر جين من جامعة أوهايو- أثنز الذي يعمل مستشاراً في جامعة الملك عبدالعزيز ويساعد في التعاقد: إن هذا البرنامج الذي تدعمه وزارة التعليم العالي في المملكة العربية السعودية يهدف إلى تحسين الانتشار، لكن الجامعة أيضاً لديها الرغبة أن يساعد هؤلاء الباحثون في تأسيس برامج بحثية فاعلة ويحضروا للجامعة أربعة أسابيع في السنة، يقدمون خلالها برامج تدريب مكثفة ويشرفون على الرسائل العلمية ومساعدة أساتذة الجامعة في إنشاء مشاريع بحثية، ومثل هذا البرنامج يحفز الطلاب وهيئة التدريس.. وقال عالم الفضاء في جامعة تورنتو في كندا ري كالبيرق "أعتقد في البداية أن الجامعة تريد شراء اسمه إلا أنه اقتنع أنها جادة في استثمار خبرته في البحث".
ثالثاً: تأسيس برامج بحثية متقدمة كالتي ذكرت المجلة أن الدكتور العثمان أسسها في جامعة الملك سعود، مثل برنامج زمالة العلماء المميز لزيادة أعداد الباحثين المشاركين في الجامعة وعمل بحوث مشتركة معهم، والثاني برنامج زيارات (أستاذ زائر) يشترط فيه نشر خمسة بحوث سنوياً على الأقل في مجلات معهد المعلومات العلمية وهو أمر في غاية الإيجابية، فهما برنامجان تم الإعلان عنهما وموجودان في منشورات ومطبوعات الجامعة ويتم الحديث عنهما، وتفسير المجلة بأنهما يهدفان إلى نتائج سريعة للتخلص من سلبية التصنيف المتدني الذي تثيره الصحافة بين وقت وآخر وأنه نجح في تحقيق هذا الهدف وارتقت الجامعة في تصنيفاتها هو رأي للمجلة الحق في طرحه، ولنا الحق في الاختلاف معه، فمن العاقل الذي يظن أن يُنشأ برنامج بحث علمي اليوم ونتوقع أن يقدم لنا اختراعاً غداً.
والسؤال لأصحاب الألباب هو: إذا كانت مؤسسات التصنيف موضوعية وفاعلة ومهمة وتعرف ما تفعل فهي ليست بالغباء الذي يجعلها تقبل حيثيات مفبركة وغير صحيحة.. وإن كانت تلك المؤسسات غبية ويمكن الضحك عليها والالتفاف حولها فهي ليست مهمة ولا تستحق كل تلك الضجة.. فهل نعقل هذا المبدأ ونتصرف على أساسه ونتوقف عن إحباط الناجحين؟
خلاصة القول أنه في ثنايا التقرير تحامل كبير يضر ولا ينفع.. وكلام العلماء الوارد في التقرير شهادة فخر لجامعة الملك سعود وجامعة الملك عبدالعزيز في مبادرات موفقة إذا استمرت ستصل بنا إلى مبتغانا، من تحقيق الابتكارات والاختراعات عن طريق أبحاث علمية تحول تلك الابتكارات إلى شركات تصنيع توظف المواطنين وتصدر البضائع، في منظومة عالية المستوى تؤدي إلى دعم اقتصاد بلادنا. ومع مرور الزمن سيدرك القوم الحقيقة. وأختم برسالة الأستاذ عبدالله أبو السمح للجامعتين: "استمروا ولا تتقاعسوا فهو طريق علم وارتقاء".