إن من أهم العوامل التي تؤدي إلى ضعف فعالية رقابة الأجهزة الرقابية في المملكة فيما يتعلق بما يتم اكتشافه من مخالفات مالية وإدارية، هي عدم تفعيل العقوبات الجزائية المنصوص عليها في الأنظمة والقوانين.

فإذا كانت التقارير الرقابية تقدم كشفاً لجوانب الانحرافات والقصور وتقدم توصيات تصب في إطار الإصلاح المالي والإداري، فما هي التوابع على التقارير التي تتقدم بها؟ فبدون المساءلة والعقوبات، ستعلم الأجهزة الحكومية أن ملاحظات الرقابة مجرد حبر على ورق، وليس لها تأثير سوى (شوشرة مؤقتة) على الجهاز ومن ثم العودة إلى تكرار نفس الممارسات والمخالفات دون رادع.

وفي ضوء هذا الواقع، أتساءل: ما هي علاقة ديوان المراقبة مثلاً بالسلطة القضائية، حيث إن القضاء يضمن للرقابة طابع الردع والعقاب؟ وهل يتم إحالة المخالفات المالية والإدارية إلى القضاء؟ وما هي الطبيعة القانونية للمخالفات المالية والإدارية، وما هي مشكلتها؟ وهذه الأسئلة بالتحديد قد تفسّر لنا على وجه من الوجوه لماذا لا تطبق العقوبات على المخالفات المالية والإدارية التي تكتشفها الرقابة! لن أدخل في تفاصيل المشكلة، ولكن أكتفي بمجرد تسليط الضوء عليها من خلال مناقشة وتحليل بعض جوانبها.

من المعلوم أن ديوان المراقبة لا يتمتع بسلطة قضائية، كما أن علاقته بهذه السلطة هي علاقة غير مباشرة، بالإضافة إلى عدم اختصاصه بمحاكمة المتهمين بالفساد، ولعل عدم الاختصاص له مبرراته التي تتمثل في مبدأ الاستقلالية، حيث لا يستقيم الأمر أن يكون الديوان خصماً وحكماً في نفس الوقت، لذلك تتولى السلطة القضائية في الدولة مهمة المحاكمة لاستقلالها عن أطراف النزاع.

أما بخصوص طبيعة علاقة الديوان غير المباشرة بالقضاء وخاصةً فيما يتعلق بالمخالفات، فيمكن فهمها من خلال المادة (16) من نظامه والتي تنص على: "في حالة اكتشاف مخالفة، فللديوان أن يطلب تبعاً لأهمية المخالفة من الجهة التابع لها الموظف إجراء التحقيق اللازم ومعاقبته إدارياً، أو أن يقوم الديوان بتحريك الدعوة العامة ضد الموظف المسؤول أمام (الجهة المختصة بإجراءات التأديب)".

وبناءً على المادة السابقة، فإن الديوان أمام خيارين، أما أن يطلب من الجهة الحكومية نفسها إجراء التحقيق وتطبيق العقوبة وهي غالباً تتعلق بالمخالفات الإدارية، أو أن يحيل المخالفة إلى هيئة الرقابة والتحقيق والتي بدورها تقوم بإحالة القضية بعد إجراء التحقيق إلى القضاء، وخاصةً في المخالفات المالية ذات الطابع الجنائي.

وهذان الخياران يتعلقان بطبيعة وأهمية المخالفة التي بالطبع تحتاج إلى معايير لتحديد الأهمية النسبية لهذه المخالفات، والتي بدورها أيضاً تحتاج إلى قياس الأثر المترتب على هذه المخالفة بشكل موضوعي، وهنا تكمن المشكلة، لأن تحديد طبيعة وأهمية المخالفة سوف يخضع للاجتهادات الشخصية في ظل غياب هذه المحددات وهذه المعايير، لذا تكمن المخاطر في مثل هذه القضايا في انتفاء المساءلة القانونية.

بالطبع هنا لا أتحدث عن المخالفات ذات الطابع الجنائي مثل التزوير والرشوة ولكن أتحدث عن المخالفات التي تتعلق بالتحايل على الأنظمة، أو تلك المخالفات التي تتعلق بعدم تطبيق مواد النظام ومخالفة واجبات الوظيفة وترتب عليها هدر مالي، أو إضرار بالصالح العام، وهذا ما أقصده بالتحديد في هذه المقالة.

وكما ذكرت آنفاً فإن لدينا مشكلة تتعلق بتحديد أهمية المخالفة، كما لدينا مشكلة أيضاً تتعلق بتضارب المصالح في الجهة الحكومية نفسها حين يطلب الديوان إجراء التحقيق في داخل الجهة، حيث إنه في بعض الأحيان تحاول الجهة الدفاع عن نفسها وإبعاد الشكوك عنها، وتتخذ في سبيل ذلك شتى الوسائل الممكنة منها: تعمد تفسير النظم والتعليمات على غير وجهها الصحيح أو في غير موضعها لتبرير المخالفات، أو أن تبحث عن (كبش الفداء) والذي في الغالب يكون من الموظفين الصغار لتوقيع العقوبات عليه لإخلاء المسؤولية.

أما بالنسبة للمخالفات والتي تمت إحالتها للقضاء فإنه بمجرد صدور الحكم القضائي، لا يتم الالتفات في الغالب إلى المسببات الرئيسية التي أدت إلى حدوث المخالفة حتى وإن كانت جنائية، والتي قد تتعلق بضعف الرقابة الداخلية والتي هي من مسؤولية الإدارة والجهة الحكومية ككل وليس الموظف فحسب، وبالتالي كيف يتم معاقبة المسؤول عن هذا الضعف الرقابي؟ هذا من جانب.

ومن جانب آخر، فإن هناك عوامل أخرى تزيد من حيرة الأجهزة الرقابية بشكل عام حول قضايا المخالفات المالية والإدارية وتحديد المتسبب في حدوثها وبالتالي تحديد المسؤولية، ومن ذلك على سبيل المثال: تقادم بعض الأنظمة المالية والمحاسبية وتعدد الإجراءات وتداخلها، والتي قد تسهم في حدوث الأخطاء، والتي قد تستغل أيضاً في تبرير المخالفات، وهنا يجب أخذ الحيطة والحذر في التعامل مع مثل هذه المشكلات، لأنه في بعض الأحيان قد تبرر بعض الجهات على سبيل المثال مخالفتها لقواعد وإجراءات المستودعات الحكومية بتقادم النظام، ولكن في الواقع هناك مواد وإجراءات أساسية في المستودعات لم تفقد أهميتها بسبب التقادم، ومع ذلك يتم مخالفتها!

هذا باختصار شديد فيما يتعلق بعلاقة الديوان بالسلطة القضائية والمشاكل المحيطة بهذه العلاقة، أما بالنسبة للطبيعة القانونية للمخالفات المالية والإدارية فإن المادة (15) من نظام الديوان قد أوضحت بشكل عام طبيعة المخالفات المالية، وبالنسبة للمخالفات الإدارية فقد تم التطرق لها بالتفصيل في المذكرة التفسيرية لنظام تأديب الموظفين، لذا لا مجال لذكرها في هذه المقالة، ولكن من المهم أن يكون هناك تصنيف وتوصيف أكثر تفصيلاً للمخالفات سواءً كانت مالية أو إدارية وتحديد عقوباتها بما يقلل من مجالات التقدير عند تطبيق هذه العقوبات، ولتفعيل الدور الرقابي أجد من الضروري التوسع في المهام الرقابية وخاصة عند وجود شكوك تتعلق في النزاهة المالية والإدارية في أعمال الجهات الحكومية وإحالتها للقضاء كما يجب أن تكون الرقابة شفافة ومعلنة، لأن الأمر يتعلق بتصحيح الأوضاع وتقييم النظم والممارسات.