ترى هل يؤمن أحد منا وهو يدلف إلى بيته ليلا، أن ترك الباب مفتوحا لا يمثل مشكلة لأن الناس مؤدبون ومسلمون وملتزمون وعلى درجة عالية من الأخلاق؟ بالتأكيد لا. لكن إقفال باب الدار أيضا لا يعني أن كل من هم حول المنزل متربصون به وببابه إذا ظل مفتوحا. كذلك لا يمكن نزع كل إشارات المرور من الشارع وإطفاء فلاشات أجهزة ساهر بحجة أن الناس مؤتمنون على أرواحهم وعلى أرواح غيرهم وأنهم طيبون متزنون، وفي ذات الوقت لا يعني انتشار إشارات المرور أننا نحكم على المجتمع بالتهور وقلة البصيرة. يمكن قياس ذلك على كل القضايا في حياتنا وتحديدا تلك المرتبطة بالتماس مع الآخرين، أي بآلية الحياة اليومية وحقوق الأفراد وعلاقاتهم، حتى أولئك الأفراد الذين تربينا ثقافيا على أنهم هم مصدر الحماية والأمان بالنسبة لنا، كالآباء والأزواج وأولياء الأمور، لا يمكن الاحتكام فقط إلى التزامهم الأخلاقي وطبيعتهم العائلية، وحوادث العنف الأسري الآن خير دليل على ذلك.

تصبح الأخلاق حكما مؤثرا في ظل سيادة العرف، والأعراف إنما تزدهر في الجماعة الصغيرة كالعائلة والقبيلة والقرية، إنما في زمن الدولة الحديثة والمدينة الواسعة من الطبيعي والحتمي أن تنفرط منظومة العرف نظرا لتعدد الناس واختلافهم وتنوعهم ليصبح الضابط والحاكم الوحيد لعلاقتهم هو القانون، والقانون فقط.

في مجتمعنا الذي خرج من حيز الجماعة الصغيرة المتشابهة إلى الجماعة الكبيرة المتنوعة والمتعددة بتنا نشهد كثيرا من الخروقات والأحداث التي تؤكد أن غياب تشريعات في هذا الجانب تمثل المحفز الأبرز لظهور كل تلك الأحداث، وفي قضايا الأحوال الشخصية وحيث لا يوجد لدينا نظام واضح وشامل ومحدد المعالم يصبح التعامل مع هذه القضايا معقدا للغاية، أيضا يصبح تكرارها مؤلما ومربكا للغاية. لكن الاحتكام للقانون أكثر من الاحتكام للأخلاق لا يعني مصادرة حرية الناس في سلوكياتهم الفردية، بل إن السلوك الفردي مهما كان خاصا فهو بحاجة إلى حماية القانون والنظام ما لم يمثل عدوانا على آخرين، وبخاصة في القضايا الخلافية أو قضايا الحريات الشخصية، ففي المجتمعات الكبرى التي تنفرط فيها الجماعة الصغيرة يصبح الفرد قيمة وجماعة بحد ذاته، أبرز أعضاء جماعته هم النظام والقانون والمحيطون به الذين لا يرتبط معهم سوى برابط المدينة وعناصر الحياة اليومية المشتركة. لا بد من مواجهة الواقع التالي: الكثير من الأحكام لدينا يختلط فيه الفقهي بالقانوني، ومع أهمية الفقهي ودوره المؤثر في صياغة الأحكام والقوانين في كل مجتمع إسلامي إلا أن استحقاقات الواقع تحتم إدراك أن ظروف وجود حكم فقهي في زمن ما لا يمكن أن تنطبق تماما على ظرف مجتمع آخر، مما يعني أهمية أن يصبح القانوني والنظامي عنصرا فاعلا في ذلك التشريع.

إن الحديث عن بعض القضايا الاجتماعية المعاصرة لا يمكن أن نرجع فيه فقط إلى موقف فقهي قديم؛ دون النظر إلى اعتبارات الواقع الجديد الذي نعيشه، والذي شهد تحولات واسعة يصبح معها الاحتكام لظرف الحكم القديم نوعا من مجادلة الواقع وإنكاره. في مثل هذه القضايا لا يمكن أبدا الاحتكام إلى البعد الأخلاقي لدى الناس، خاصة أن الأخلاق لا يمكن مراقبتها وإنما يمكن ضبطها ومحاصرة تأثيراتها السلبية على الآخرين، وفتح مختلف المسارات التي تعين على نشر ما هو إيجابي منها، من خلال التوعية والإعلام والتعليم، ومع وجود القانون والنظام يصبح فشل أو نجاح توسيع دائرة الوعي السلوكي مسألة نسبية، لكن التركيز على الأخلاق أكثر من القانون يجعل من ظهور أي خرق لها دلالة فشل واضحة وكبرى، وفي مجتمعنا حيث يزدهر الوعظ والنصح على مختلف المنابر يشهد المجتمع كذلك أحداثا لا تتفق وهذا الاتساع في التوجيه الأخلاقي المستمر، وهو يدفع كثيرا من الوعاظ للاشتباك مع المجتمع أحيانا والحديث عن ظهور الفساد والانحرافات، بينما هي مظاهر طبيعية جدا تشهدها كل بلدان العالم إنما تتحكم في تأثيراتها وأضرارها عبر الأنظمة والقوانين. لا يعني ذلك أن الدين والعرف يعدان عبئا على القانون أو على النظام، بل على العكس من ذلك يمثلان رصيدا مهما للنظام لأنهما يتفقان معه غالبا في الأسئلة الكبرى التي تدور حول حماية الحقوق والواجبات.

الآن يواجه المجتمع السعودي واقعا متحولا ومتسعا للغاية، وحيث تغيب قوانين الأحوال الشخصية، وقوانين الحقوق الفردية، سوف نجد أنفسنا أمام واقع لا يثق في تديننا ولا في أعرافنا إذا لم تسهم في حل تلك الأزمات، مع أن وظيفتها لم تكن كذلك في يوم من الأيام، وإنما هي وظيفة القوانين والأنظمة التي يمثل غيابها فجوة كبرى تتسع آثاره السلبية على الفرد وعلى المجتمع.

إن قضايا كالعنف الأسري أو حقوق النساء أو الجرائم الأخلاقية لا تعني أننا مجتمع بلا أخلاق، إنها ببساطة تعني أننا بحاجة إلى أنظمة وقوانين.