تشعر كسعودي، بالفرحة والتميز، حين تتناقل وكالات الأنباء وأقنية الفضاء أننا مرّرنا ما قبل الأمس ما سمي (أكبر ميزانية في التاريخ) وأننا لامسنا للمرة الأولى في حياة هذا الكيان السعودي سقف (التريليون) بل ومشينا فوقه. ويكذب على نفسه من يظن أن هذه الميزانية لا تعنيه، لأنه يترك الكعكة الذهبية إما للطامعين أو المنتفعين، وفي الزمن الجديد فإن الأموال لن تهبط في المساء إلى غرف النوم ولن تتسلل نحو الكسالى تحت البطانية. انظروا لنصف الكوب الممتلئ ونحن نحقق هذه الأرقام المدهشة في هذه الظروف العالمية والعربية الساخنة الملتهبة.

أنتم من يجبرني اليوم لأضرب بطرف أصابعي على نصف الكوب الفارغ. وحين قرأت مساء البارحة تعليقات القراء الكرام على أخبار الميزانية في بعض المواقع الإلكترونية وجدت القاسم المشترك بين جمل القراء في جل التعليقات المختلفة: كلهم يبدؤون بحمد الله وشكره وسوادهم الأغلب يحذر من كارتيل الفساد، ومن المؤسف بمكان أن الشعور بالفساد كظاهرة بات يسيطر على العقل الباطن وأصبح جزءا من هستيريا الخوف لدى المواطن، بل بات مفردة لغوية يومية وهذه أخطر أدوات الفساد التي يغزونا بها حين تصبح هذه المفردة عند الجميع مثل الكوب البارد من الماء: نقولها في اليوم بضع عشرة مرة فلا تحرك رهبة الكلمة أي ساكن. نصف الكوب الفارغ حين الحديث عن الميزانية هو في كلمة – لكن – التي تنسف هذا الفعل المتوقع لهذه الأرقام المدهشة؟ أكبر ميزانية في تاريخنا، ولكن: ما هي الكوادر الإدارية أو المالية التي تستطيع تحويل هذا الرقم الهائل إلى فعل؟ هي نفسها آلاف الكتائب الإدارية التي كانت تدير ميزانياتنا في أيام الكساد والأزمة. أكبر ميزانية في تاريخنا كله، ولكن: كيف سترسو مشاريعنا المختلفة إذا كانت اعتمادات المالية أقل من الأرقام في مظاريف المناقصة. هنا ستعود المشاريع إلى المربع الأول للدراسة وإعادة تقييم مبلغ الاعتماد وهذا ما جعل مئات المشاريع تصف في الطابور الوهمي: مشاريع هائلة على الورق وفي التصريحات ولكن باعتمادات مالية تجعل من المستحيل طرحها في مناقصة تجعل سواد المشاريع التي ستطرح هذا العام هي نفسها التي كانت في ميزانيات ما قبل ولكن..