قلما تحظى مبادرة بالتأييد السريع والمتحمس الذي لقيته مبادرة خادم الحرمين الشريفين التي تضمنها خطابه الافتتاحي لقمة مجلس التعاون التي عُقدت في الرياض في 19 ديسمبر 2011، ودعا فيها إلى الانتقال بالمجلس من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد. فقد أيدها قادة دول مجلس التعاون في البيان الصادر في ختام أعمال القمة، وكانت ردة الفعل الشعبية السريعة تعبيراً عن الطموحات الكامنة لدى المواطن الخليجي في الارتقاء بالمجلس إلى مستوى أكثر تلاحماً وفعالية وتأثيراً، محلياً وعالمياً.
وبصفة خادم الحرمين رئيس الدورة الحالية للمجلس الأعلى لمجلس التعاون، فإن المبادرة تعكس رؤية المملكة العربية السعودية لما يجب تحقيقه خلال رئاسة المملكة لمجلس التعاون، التي بدأت مع بداية القمة وستستمر خلال عام 2012. وهي رؤية تنطلق ابتداءً مما تضمنه النظام الأساسي للمجلس من أن أحد أهم أهدافه هو الوصول إلى وحدة دوله في جميع الميادين، ولكنها تتعدى ذلك فتضع معالم واضحة لما يجب أن يكون عليها ذلك الاتحاد.
وقد جاء إعلان المبادرة في الوقت المناسب، فبعد مرور ثلاثين عاماً على تأسيس المجلس، من المنطقي أن نسعى لتحقيق هدف الوحدة الذي وضعه مؤسسوه، بعد أن بلغ المجلس من النضج والقوة والتكامل مستوى مرموقاً، سواء في مجال التكامل الاقتصادي والاجتماعي بين أعضائه، أو في مكانة المجلس ودوره الإقليمي والدولي.
ومن قراءة لـ "إعلان الرياض" الذي صدر في ختام القمة، يمكن استشفاف بعض الملامح الرئيسية للرؤية الجديدة لمستقبل المجلس. فهذا الإعلان، الذي يعكس عادةً توجهات دولة الرئاسة، يتناول محورين رئيسيين، أحدهما يتعلق بالشأن الداخلي وهو موجه لكل دولة من دول المجلس على حدة، والثاني يتعلق بالشأن الإقليمي أي دور مجلس التعاون ككلتة واحدة.
ففي الشأن الداخلي، وهو ما لم تركز عليه وسائل الإعلام العربية ولكنه كان محل اهتمام كبير في الإعلام الغربي، تتضمن المبادرة دعوة لتسريع مسيرة التطوير والإصلاح الشامل، داخل كل دولة على حدة، وزيادة مشاركة المواطنين والمواطنات في شؤون بلادهم، وتعزيز الرفاه الاقتصادي والاجتماعي. وفي المجال الحقوقي، هناك تأكيد، غير مسبوق على ما أعلم، لمبدأ المساواة بين جميع المواطنين والمواطنات أمام القانون، وفي الحقوق والواجبات، ودعوة إلى تحصين الجبهة الداخلية وترسيخ الوحدة الوطنية، وقطع الطريق أمام المحاولات الخارجية لإثارة الفتنة والانقسام والتحريض الطائفي والمذهبي.
وفي الشأن الإقليمي، تشمل المبادرة أبعاداً أمنية وعسكرية واقتصادية وإنسانية، تهدف في مجملها إلى تحويل مجلس التعاون من مجال للتنسيق والتكامل إلى واقع اتحادي، تصبح فيه دول المجلس كياناً واحداً، "يحقق الخير ويدفع الشر"، ويستجيب لتطلعات المواطنين، ويواجه التحديات التي تحيط بالمنطقة. وفي المجال الأمني على سبيل المثال، يتطلب هذا التحول تطوير التعاون الدفاعي والأمني، بمفهومه الواسع، بما يكفي للتصدي بسرعة وفعالية، وبشكل جماعي موحد، لأية تهديدات أو مخاطر تواجهها.
وعلى المستوى الخارجي، تدعو المبادرة إلى تفعيل دبلوماسية موحدة لدول المجلس مع كافة القوى الإقليمية والدولية، والدفاع بصفة جماعية عن المصالح الخليجية المشتركة في المحافل الدولية.
وعلى المستوى الاقتصادي، تدعو المبادرة إلى تحقيق أعلى درجات التكامل الاقتصادي بين دول المجلس، وتجاوز العوائق التي تعترض ذلك.
ومن أهم ما تضمنته المبادرة كذلك تفعيل دور الشباب وتعزيز انتمائهم الخليجي، والدعوة إلى تكثيف التواصل والتعاون والتقارب بينهم، من خلال الأنشطة التعليمية والإعلامية والثقافية والرياضية والكشفية وغيرها.
ومبادرة الملك في قمة الرياض تمثل استمرارية فكرية على مدى عقد من الزمن على الأقل. فقد كان الشأن الخليجي محل اهتمام خادم الحرمين منذ كان ولياً للعهد، وبذلك تأتي المبادرة الجديدة نتيجة طبيعية لذلك الاهتمام. ففي عام 2001، في كلمة قدمها أمام قمة مسقط، شَخّص خادم الحرمين حالة الجمود وقتها في مسيرة المجلس، التي نجمت عن تغليب المصالح الآنية المحدودة على المصلحة المشتركة لدول المجلس.
وفي القمة التشاورية لعام 2002 طرح خادم الحرمين "وثيقة الآراء" التي دفعت العمل الخليجي المشترك بشكل متسارع في عدد من المسارات، فتم بناءً عليها إعلان الاتحاد الجمركي في بداية عام 2002م. ونصت تلك الوثيقة على تحقيق المساواة التامة في المعاملة بين مواطني دول المجلس، حيثما كانوا في دول المجلس، في مجالات العمل الأهلي والحكومي، وفي الاستثمار وممارسة الأنشطة الاقتصادية، وغيرها، وبناء على ذلك وُضع البرنامج الزمني للسوق الخليجية المشتركة، إلى أن تم إعلانها في يناير 2008م.
وفي ديسمبر 2008 تبنّت قمة مسقط مقترحات أخرى لخادم الحرمين ترمي إلى تسريع الأداء في العمل المشترك وإنجاز المشاريع التكاملية التي أقرها المجلس.
والمفهوم إذن من مبادرة الرياض أنه وبعد أن حقق المجلس إنجازاته التكاملية، متجاوزاً معظم التجمعات الإقليمية في درجة الترابط والتكامل بين دوله ومواطنيه، فإن الخطوة المنطقية بعد ذلك هي الانتقال إلى صيغة أخرى من التكتل أكثر عمقاً وشمولاً، هي مرحلة الاتحاد التي تسمح بدرجة أكبر من التلاحم والاندماج والوحدة بين المواطنين والدول والمؤسسات، وتمكن المجلس من لعب أدوار أكثر فاعلية في المحيط الإقليمي والدولي.