يقول لي رجل الأعمال، صاحب اسم المقاولات ذائع الصيت: أعلنت عن وظيفة (مدير مشروع) بمواصفات استثنائية تتضمن الشهادات العليا المتخصصة مثلما تتطلب الخبرة الطويلة، بالإضافة إلى توابل اللغة واستخدام تطبيقات التقنية. يواصل: جرى الخيار على شخص سعودي يحمل في أوراقه ضعف ما كنا نطلب وأعطيناه مرتبا شهريا يوازي ضعف ما طرحناه في الأصل وسلمناه المشروع ثم كانت النتيجة. عام ونصف العام لم يتقدم المشروع خطوة واحدة وكانت تقارير التبريرات تنبئ عن فلسفة إدارية أقرب للسفسطة، ويبدو أن هؤلاء الكبار لا يكبرون إلا في اللغة وفي التنظير. يبدو أن الميدان الحقيقي لا يحتاج للشهادات ولا الخبرة بدليل البديل الذي استلم ذات المشروع بعد عامين من تعيين الأول. يواصل: كان البديل مواطنا سعوديا يعمل في سكرتارية ذات المشروع وقد أوصى به مهندس أجنبي يعمل في ذات المهمة. كان البديل لا يحمل أكثر من الشهادة المتوسطة (مقابل الماجستير المشروط في الإعلان القديم) وكان بالكاد يفقه بعض كلمات اللغة الإنجليزية مثلما هو بالكاد شبه أمي في استخدامات الحاسوب. يواصل رجل الأعمال: ومع مدير المشروع الجديد بدأت معالم المشروع الضخم مثل شجرة في بدء الربيع وخلال عامين فقط تم تسليم كامل المشروع للجهة الحكومية بأفضل المواصفات وبهامش ربح يفوق بالضعف تقديرات مدير المشروع الأول، وأكثر من هذا أنهينا المشروع بما يشبه الحفلة الإنسانية التي جمعت مئات العاملين والموظفين في مساء استثنائي وإذا بالمدير الجديد يفاجئ الجميع، وعلى لساني، براتب شهر إضافي، تقديرا للجهد الهائل الذي بذلوه كي ننهي المشروع في وقته المحدد وكنت سعيدا جدا بقراره الذكي وباركت مبادرته لأنه أعطاني درسا مختلفا في الإدارة يبرهن بكل وضوح أن الشهادة العليا هي – الميدان – لا ذلك الورق الكرتوني الذي تدفعه الجامعة بختمها لمن قد لا يستحق. هذا الموظف البسيط وبأدواته البسيطة يبرهن أن آلاف الشباب يذهبون ضحية الشروط وأن بعض المواصفات المخملية قد لا تعكس قدرة أفضل على التصدي للمهمة.

وفي حواري مع رجل الأعمال، أتيت له على بعض الشواهد التي تدعم هذه الفكرة. في مذكرات الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريجان يذكر أن الحزب الجمهوري طلب منه كممثل سينمائي صاحب شعبية مقبولة أن يجوب ولاية كاليفورنيا كي يختبر شعبية ثلاثة مرشحين لمنصب حاكم الولاية الذي يريد الحزب أن يستعيده من براثن الحزب المقابل. وفي مذكراته يذكر رونالد ريجان أنه بعد أن طاف بكل الولاية لمدة ثلاثة أسابيع وعندما عاد لمنزله في – بيفرلي هيلز – سألته زوجته على العشاء: من وقع عليه اختيارك، فأجاب بلا تردد: أنا، لأنني اكتشفت أن القصة برمتها لا تحتاج إلى هذه الهالة السياسية المصطنعة. وكانت المفاجأة أن هذا الشخص الذي ذهب في رحلة استقصاء ليرشح واحدا من ثلاثة، كان واحدا من أعظم حكام الولاية فيما بعد، ومن ثم كان واحدا من الذين تركوا بصمة في التاريخ السياسي الأميركي كزعيم لكل أميركا فيما بعد. وفي القصة الأخرى، وصلت مارجريت تاتشر إلى زعامة المحافظين ورئاسة الوزارة البريطانية وهي ابنة – البقال – وصاحبة شهادة جامعية في الكيمياء وحتى اللحظة ما زالت هذه المرأة صانعة حقيقية لبريطانيا الحديثة التي تحررت من إرث العمال ونقاباتها الاشتراكية. ومن بعدها فشل المصرفي الضخم جون ميجور في أن يواصل المد التاتشري وأوصل حزبه إلى الحضيض ومن ثم سلم الزعامة فيما بعد إلى الحزب المقابل بعد ما يقرب من عشرين عاما من نفوذ المحافظين بفضل تاتشر. هذه البراهين دلالة على أن المؤهلات والشهادات لا تصنع الفرق.