-1-
منطقة الخليج تحمل في باطنها دواعي تكوّن البؤر الساخنة، حيث تتوفر أسباب الصراع من احتضان مصادر الطاقة وامتلاك الوفرة المالية والأسواق النامية وقلة السكان وجذب القوى العاملة. ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً وهذه المنطقة في حال "استنفار" لا تخرج من أزمة إلا وتقترب من الدخول في أخرى. وكانت فاتورة اللعب على هذا المسرح المضطرب، مع لاعبين طامعين، بالغة التكاليف. ورغم هذه "المهددات" فقد نجحت دول مجلس التعاون إلى حد كبير، في التفاعل مع الأزمات لتحمي كياناتها وتصون ثرواتها وتزيل ما يحول دون المضي على طريق التنمية والتقارب بين دولها وشعوبها. وكانت في كل أزمة تتخذ من المواقف والسياسات ما يساعدها على الخروج من "المشكلة" من خلال التحالفات وعقد الاتفاقيات مع القوى القادرة على صد المخاطر.. ففي بداية الثمانينات من القرن الماضي تعرضت المنطقة لبداية الأزمات بعد خروج مصر من المنظومة العربية – إثر التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد – وقيام الثورة الإيرانية، بكل ما يحركها من حمـولات تاريخية وأطماع سياسية وما تثيره من تناقضات مذهبية أحيت "بؤرا خامدة" كشفت خلل التعامل مع المختلف، ودخولها في الحرب مع جارتها العراق – التي أصبحت اليوم حديقتها الخلفية – وانحياز "سورية الأسد" إلى الحليف الإيراني رغم شعار "أمة واحدة ذات رسالة خالدة".. هذا "الواقع" الذي أدخل تغييرات على الخريطة الإقليمية، وعدل مواقع موازين التأثير وبدل المواقف كان لا بد له من قرار يكافئ مخاطره ويتصدى لنتائجه ويتعامل مع مستقبله، وهكذا "ولدت" فكرة مجلس التعاون الخليجي ليكون القوة الممثلة لدوله المعبرة عن حضورها والناهضة بمسؤولية الدفاع عن سلامتها واستقرارها، فالمجلس "نطفة" تخلقت في رحم التحدي، وطوال العقود الماضية تعرض إلى اختبارات قاسية كان أخطرها التصدي لاحتلال الكويت، حين انشق الصف العربي وبدا عجز القدرات الذاتية عن الوفاء بمتطلبات استعادة حق الكويتيين المسلوب. وكان آخر التحديات ما واجهته دولة البحرين، قبل أشهر، حين تعرض أمنها واستقرارها للتهديد. وقد أثبتت التجربة أن المجلس كيان ضروري لأهله، رغم إخفاقاته المعروفة في المجال الاقتصادي والصناعي والاجتماعي.
-2-
اليوم تعيش المنطقة العربية فصلا بالغ الأهمية في تاريخ نظامها السياسي الحديث، يستدعي التفاعل معه بما تستحقه من رؤية وخطوات عملية لأنه يحمل في طياته الجديد الذي سيؤثر على الجميع، وإن بدرجات متفاوتة.. ودول الخليج العربي ليست معزولة عن نسيج المنطقة البشري ومزاجها الثقافي وتداعيات أحداثها وما يجري عليها من تغيرات في أنظمتها السياسية بعد صعود تيارات جديدة لا تحمل "مودة" للنظام السياسي القديم. وستظل المنطقة مركزاً لاهتمام العالم، في الأفق المنظور، لما تحظى به من أهمية تشكلها الثروات الفائضة ومخزون الطاقة الهائل والفراغ السكاني النسبي، وستبقى جاذبة لأطماع القوى العالمية ومسرحا لصراع المصالح مع مؤثرات ونتائج الصراع الإقليمي الذي برزت فيه دول لها تطلعاتها في ظل "الفراغ السياسي" الناتج عن حال "السيولة" التي تمر بها المنطقة العربية.
وإذا سلمنا بأن دول المنطقة تواجه تحديات خارجية كبرى فإنه من الموضوعية المفيدة أن نقر بأنها تواجه تحديات داخلية أيضا، وأن تأثير هذه التحديات على الاستقرار والأمن ومشاريع التنمية والسلم الاجتماعي لا يقل عن مخاطر المهددات الخارجية، بل يعد أكثر إلحاحا لأنه يدخل في دائرة مسؤوليتها. ومن تلك التحديات الضاغطة أن غالبية سكان الإقليم من الشباب المنفتح على ما يجري حوله في العالم من متغيرات سياسية وثقافية واقتصادية دون أن يشعر أنه مشارك في صنع مستقبله. ويزيد من "احتقان" مشاعره ما يراه من تعثر في برامج التنمية وعجزها عن تلبية مطالبه رغم توفر الثروات القادرة على جعل إنسان هذه المنطقة في عيش رغيد.
هذه التحديات – الداخلية والخارجية – تضع دول مجلس التعاون أمام لحظة تاريخية استشرفتها رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ـ يحفظه الله ـ بدعوته قادة المنطقة إلى تجاوز مرحلة التعاون، بكل ثمراتها وإخفاقاتها، إلى الاتحاد، بكل دلالاته وقوته ومقتضياته. لا شك في أنها دعوة تنظر إلى المستقبل من معطيات الحاضر، وتضع للمخاطر حساباتها وأوزانها وتتفاعل مع حركة التاريخ. وأي تهاون أو تراخ في التفاعل معها سيكون خطأ كبيراً، فهل تنجح دول المنطقة في "التخلص" من الأعذار والعراقيل والمعوقات التي صاحبت مسيرة المجلس طوال ثلاثين عاماً؟ وهل يستعيد المجلس – بخطوات عملية – ثقة مواطنيه بعد أن فقدها أو كاد؟.
علينا أن نتذكر أن من أسباب قيام مجلس التعاون الخليجي هو رغبة أهله في أن يكون لهم رأيهم ومشاركتهم في حماية منطقتهم، وأن يكون المجلس قوة لها وزنها في الحضور الدولي والإقليمي، وألا تظل دوله مرتهنة لسياسات دولية وإقليمية "تساوم" على أمنها واستقرارها. وإذا تمت ترجمة هذا الهدف من خلال دعوة خادم الحرمين الشريفين إلى واقع عملي فهو يعني اتحاد الموقف السياسي والدفاعي والأمني والاقتصادي، وهذا لا يتم بصورة صحيحة فاعلة إلا إذا اعتمد على قاعدة شعبية متفاعلة لها مؤسساتها التمثيلية والاقتصادية والثقافية والمهنية التي تجعل مواطن دول المجلس يتفاعل وينفعل بما تتعرض له كل دول المجلس. وهذا يعني الانتقال من "التعاون" إلى "الاتحاد" بكل ما يتطلبه ذلك من إعادة النظر في مفهوم "السيادة"، بحيث يعبر عن وحدة الأمن ووحدة المصير ووحدة الاستقرار.
المجلس قطع شوطاً – خلال السنوات الماضية – في إنشاء المؤسسات المشتركة ولديه الخبرة الكافية التي تمكنه من إيجاد قوة دفاعية مشتركة، ووحدة اقتصادية متجانسة ومتكاملة، وخطاب ثقافي غير متنافر، ومؤسسات ثقافية تستفيد من التنوع والاختلاف لإثراء صورة الخليجي في المنظومة العربية، وتظل المسألة الجوهرية في هذه المرحلة التاريخية هي مساحة المشاركة الشعبية والمؤسسات المعبرة عنها بحيث يشعر المواطن أن مشاركته حقيقية وأن إرادته هي المؤثرة في القرار السياسي والاقتصادي والأمني.