على خلفية الاضطرابات والاحتجاجات الواسعة غير المسبوقة في منطقة الشرق الأوسط، والتي أدت حتى الآن إلى سقوط حكومتين في تونس ومصر، ونشوب حرب أهلية بأبعاد دولية في ليبيا، واستمرار الاحتجاجات في اليمن والأردن وسوريا ودول أخرى، توقَّع بعض المراقبين أن تتأثر الأراضي الفلسطينية بهذه الموجة العارمة من الاضطرابات، خصوصاً أن المناطق الفلسطينية تعاني من احتلال غاشم وانقسام مؤلم بين أبناء الشعب الواحد. وبالفعل فقد ظهرت بوادر لتلك الاحتجاجات في 15 مارس الماضي، حين تظاهر آلاف الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة للمطالبة بإنهاء الانقسام بين السُلطة الفلسطينية في رام الله وحكومة حماس المقالة التي تسيطر على قطاع غزة. وقد لقيت هذه المظاهرات في البداية تجاوباً فورياً من قبل القيادات الفلسطينية، حيث دعت حركة حماس إلى عقد اجتماع مع الرئيس محمود عباس، واستجاب عباس بالإعراب عن استعداده لزيارة غزة لمناقشة تشكيل حكومة فلسطينية. لكن الآمال ما لبثت أن تبخَّرت بعد أن بدأ كل طرف يتلكأ في تنفيذ ما وعد به ليبقى الوضع على ما هو عليه دون تغيير.
لكن احتمالات حدوث انتفاضة فلسطينية ثالثة عادت للانتعاش عندما قامت مجموعة من الشباب بإنشاء صفحة بعنوان "الانتفاضة الفلسطينية الثالثة" على موقع "فيسبوك" للتواصل الاجتماعي تدعو إلى بدء انتفاضة شعبية سلمية في 15 مايو المقبل، والذي يصادف ذكرى "يوم النكبة" بالنسبة للفلسطينيين و"عيد الاستقلال" بالنسبة للإسرائيليين، وتهدف هذه الانتفاضة للتخلص من الاحتلال الإسرائيلي بشكل سلمي وإنهاء الانقسام داخل الشارع الفلسطيني وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وما لبثت هذه الصفحة أن لقيت شعبية منقطعة النظير، ووصل عدد المشتركين في الصفحة خلال فترة وجيزة إلى حوالي 350 ألف مشترك. هذه الشعبية الهائلة للصفحة أقلقت السُلطات الإسرائيلية فبادرت بالاتصال بإدارة موقع فيسبوك وطالبته بإغلاق الصفحة بحجة أنها تدعو إلى العنف. وبالفعل، استجابت إدارة الموقع الإلكتروني لمطالب إسرائيل وأغلقت الصفحة، مع أن هناك عدداً كبيراً من الصفحات المشابهة الموجودة على هذا الموقع، ومع ذلك لم تتعرض للإغلاق. وحيث إن فيسبوك ليس الموقع الاجتماعي الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه لإنشاء مثل هذه الصفحة، فإن هناك محاولات لإنشاء صفحات على "تويتر" وغيره من المواقع لنفس الغاية.
وحيث إن احتمالات حدوث انتفاضة فلسطينية ثالثة لا تزال قائمة، استضاف "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" مائدة مستديرة ضمت مجموعة من الخبراء والمسؤولين الأميركيين لمناقشة "السياسة الفلسطينية والاضطرابات العربية". ونشر معهد واشنطن في 23 مارس الماضي تقريراً كتبه ديفيد بولوك حول نتائج الحوار، وفيما يلي أهم ما جاء في هذا التقرير:
توقعات منخفضة عن اندلاع انتفاضة جديدة
يقول التقرير إن هناك عدة عوامل تقلص احتمالات حدوث انتفاضة فلسطينية كبيرة في المستقبل القريب، سواء ضد السُلطة الفلسطينية أو حركة حماس أو الاحتلال الإسرائيلي. فمنذ مظاهرة غزة في 15 مارس أظهرت حماس استعدادها وقدرتها على قمع هذا النشاط بالقوة. ومن ناحية ثانية، حاولت السُلطة الفلسطينية أن تسترضي المحتجين في الضفة الغربية بشكل سلميً ونجحت في ذلك إلى حد كبير.
ومن المفارقات أن المتظاهرين المؤيدين للوحدة الفلسطينية يتعرضون لخطر التصنيف والتهميش في كلا الجانبين، ففي الضفة الغربية تعتبرهم فتح عملاء لحماس، بينما في غزة تعتبرهم حماس عملاء لفتح، مما يترك المعارضة منقسمة ضد نفسها.
ومن ناحية أخرى، فإن تحسُّن الوضع الأمني والاقتصادي مؤخراً في مناطق السُلطة الفلسطينية في الضفة الغربية - والذي تحقق في جزء كبير بفضل تعاون ودعم إسرائيل - قد أضعف على ما يبدو بعض الإحساس بالظلم الذي أذكى الاحتجاجات في مجتمعات عربية أخرى. ومع أنه لا يزال هناك فساد بدرجة عالية وعدم تكافؤ الفرص، فإن الانتهاكات اليومية والفساد الصغير الذي أغضب الجماهير إلى درجة كبيرة في تونس ومصر وغيرهما من الدول أقل إثارة للمشاكل في الضفة الغربية. وعلاوة على ذلك، يمتنع الفلسطينيون على الأرجح عن التحول ضد حكومتهم بدلاً من إسرائيل.
وهناك إشارات قليلة عن احتمال قيام انتفاضة جديدة ضد إسرائيل أيضاً. فالمجتمع الفلسطيني على الأرجح لا يزال مرهقاً من الانتفاضات والحرب، كما أن غزة معزولة. وفي الضفة الغربية استبعد رئيس السُلطة الفلسطينية محمود عباس صراحة الدعم الرسمي لانتفاضة ثالثة ضد إسرائيل.
تشير الثورات الأخيرة في الدول الأخرى أن التحولات يمكن أن تكون مفاجئة وغير متوقعة وخارجة عن سيطرة أي شخص، وربما تكون مُعدية. لكن هناك غموضاً إضافياً في الحالة الفلسطينية يتمثل بأن الحكومة الأميركية تنقصها معلومات تفصيلية تأتي من مصدر مباشر عن الوضع على أرض الواقع في غزة، مما يجعل تحليل الأحداث والتنبؤ بها أمراً صعباً بشكل خاص.
مؤشرات محتملة للاضطرابات
بسبب حالة الغموض في الأراضي الفلسطينية ينبغي للمراقبين أن يكونوا منتبهين لأية مؤشرات تنذر باضطراب أكبر. والفلسطينيون يمكن أن يقوموا باحتجاجات في مناسبات عديدة. فبالإضافة إلى يوم الأرض ويوم النكبة، يستطيع الفلسطينيون أن يقوموا بمظاهرات أحياناً في يونيو في ذكرى يوم "النكسة" مثلاً، حتى إن الانتخابات المحلية التي كان مقرراً لها الانعقاد بالأصل في الصيف الأخير تم تأجيلها مرة ثانية. والمشاركة الكبرى في الاحتجاجات من جانب فلسطينيي القدس الشرقية أو عرب إسرائيل يمكن أيضاً أن تكون نذيراً بتعبئة شعبية أوسع. ويمكن للمراقبين أيضاً مراقبة الإعلام الاجتماعي الفلسطيني تحسباً لأية إشارات عن اضطراب في بدايته الأولى، رغم أن الكثير من المشاركين في تلك المحادثة الافتراضية يعيشون بعيداً عن هذه الأراضي.
وعلى عكس ذلك، فإن التطورات الأخرى يمكن أن تشير إلى هدوء مستمر على الأقل في الضفة الغربية. وتشمل تلك التطورات تكوين مجلس وزاري جديد للسُلطة الفلسطينية وإعلانات بخصوص انتخابات جديدة أو جهد متفق عليه لأجل إما التفاوض مع إسرائيل أو مكاسب دبلوماسية فلسطينية أحادية الجانب.
الشرعية بين السُلطة الفلسطينية وحماس
حتى بدون التحدث عن ثورة فلسطينية، فإن التأثير الجانبي للانتفاضات العربية الأخرى قد دفع القادة الفلسطينيين إلى مواقف سياسية دفاعية. قدَّم رئيس وزراء السلطة الفلسطينية سلام فياض وكبير المفاوضين صائب عريقات استقالتهما على الرغم من أن كليهما مستمر في العمل في مناصب إشرافية ويتوقعان إعادة تعيينهما. وبالإضافة إلى ذلك أعلنت السُلطة الفلسطينية عن خطة أخرى لانتخابات برلمانية جديدة، لكنها ما لبثت أن تراجعت بسرعة عنها بحجة اعتراضات حماس.
كما أن سقوط حسني مبارك في مصر كان شؤماً على عباس، حيث حرمه من معلم وحليف رئيس ضد منافسيه في حماس، وقد أعلن الآن بشكل قاطع أكثر من ذي قبل أنه لن يترشح لإعادة انتخابه. ونتيجة لذلك فإن المعركة السياسية الداخلية على الخلافة تشتد، مما يضع فياض على خلاف أكثر مع الحرس القديم لحركة فتح، ويمزِّق الحركة بأكملها حول الكثير من الشخصيات المتصارعة.
وعلى العكس، فإن الإطاحة بمبارك قد دعمت حماس رغم أنها لا تزال تواجه حقيقة عدم الشعبية في غزة. وعليه، ترفض الجماعة التسامح مع أية مظاهرات ضخمة لصالح الثورة المصرية، خشية أن تتحول إلى تمرُّد ضد حماس نفسها. كما أن الاضطراب الأخير غير المتوقع في سوريا التي بها مركز قيادة حماس يجعل الحركة قلقة أيضاً على الأرجح.
صراع جديد على الوحدة
في الوقت الذي تواجه فيه الحركتان هذا التحدي الجديد من المشاعر الشعبية، تلجأ فتح وحماس إلى الشعار الأكثر شعبية: الوحدة الفلسطينية. وكان كلا الجانبين قد أعلن عن مبادرات تشمل زيارة مقترحة لعباس إلى غزة تهدف إلى تحقيق الوحدة، مع استمرار الاختلاف حول من يمسك بزمام الأمور ومن يذهب أولاً. ويتوقع معظم المراقبين أن هذه الدفعة الأخيرة للوحدة سوف تسقط مرة ثانية ضحية لإصرار كل طرف على حماية دائرة نفوذه. على سبيل المثال، ادَّعى عباس أن غرض زيارته لغزة - إذا حدثت - لن يكون للتفاوض على بنود الوحدة ولكن للموافقة على حكومة محايدة وانتخابات وطنية جديدة، بينما تحتج حماس على ذلك تماماً. ومسألة العنف ضد الإسرائيليين هي عقبة أخرى أمام المصالحة، حيث يستمر عباس في رفضه بشدة بينما تستمر حماس في ممارسته بل والدعوة إليه.
تداعيات دبلوماسية
إن تركيبة الاحتجاجات الشعبية ضد الحكومات المعتدلة المجاورة والصراعات الفلسطينية الداخلية على الخلافة إنما تضيف قيمة للمواقف الأكثر تشدداً تجاه إسرائيل. وما يضاعف هذا الاتجاه هو عدم الفاعلية واللامبالاة المتصورة للدبلوماسية الأميركية وكذلك الإحساس بين الفلسطينيين أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ترفض التفكير حتى في التنازلات التي عرضتها الحكومة السابقة. ومع ذلك فإن الموعد النهائي المقترح من السُلطة الفلسطينية، وهو سبتمبر 2011، لم تتم ترجمته بشكل محدد في خطة عمل ثابتة من جانب السُلطة الفلسطينية. وفي الحقيقة إن الكثير من الفلسطينيين بدؤوا يرون خيار الأمم المتحدة كفخٍ مثلما أنه فرصة، ذلك أنه لن يُحسن الموقف على أرض الواقع.
دلالات على السياسة
نظراً إلى الاحتمالات الضعيفة لإعادة التقارب الفلسطيني، واستمرار تفضيل حماس للعنف بدلاً من السلام، يقول التقرير إن أي عرض أميركي تجاه الجماعة أو إشارة بالدعم لحكومة وحدة بين حماس والسُلطة الفلسطينية ستكون إما بلا جدوى أو عكسية النتائج. لكن الإشارات الأميركية فيما يخص السياسات الداخلية للسُلطة الفلسطينية مهمة الآن بشكل متزايد. وينبغي لواشنطن أن تؤكد أنها مستمرة في رؤية عباس وفياض كشريكين أساسيين للسلام مع تحذير كلا القائدين ضد تغذية أفكار الأحادية التي يُساء فهمها أو رفض منافع التفاوض المباشر. وبالعكس، ينبغي لواشنطن أن تتجنب الاقتراب من المسؤولين ذوي المستوى الأدنى بالسُلطة الفلسطينية الذين يعبِّرون عن تعاطفهم مع "الصراع المسلح" أو ازدراء المساعدات والجهود الدبلوماسية الأميركية.