في 15 مارس المنصرم، أعلنت السُلطات المصرية عن حل "جهاز أمن الدولة"، خطوة اعتبرها المراقبون من أهم الخطوات التي قام بها قادة المرحلة الانتقالية الحالية في مصر بعد سقوط نظام حسني مبارك في 11 فبراير الماضي. وأعلن وزير الداخلية المصري الجديد منصور العيسوي، وهو شخصية تتمتع بكثير من الاحترام والمصداقية في الشارع المصري، عن إنشاء جهاز جديد تابع للوزارة يحمل اسم "قطاع الأمن الوطني" تكون مهمته مكافحة الإرهاب وحماية الأمن في الداخل بما يتماشى مع الدستور المصري ومبادئ حقوق الإنسان. وأكد الوزير أن الجهاز الجديد لن يتدخل في النشاطات السياسية أو الحياة الشخصية للمواطنين المصريين. وقد نشرت مؤسسة "كارنيجي" للسلام الدولي تقريراً شارك في كتابته ميشيل دون و مارا ريفكين عن آثار هذا التغيير على واقع الأمن المصري خلال المرحلة المقبلة.
يقول التقرير إن التطوُّرات في الأيام والأشهر المقبلة سوف تُظهر مدى جدِّية هذا التغيير في الأمن الداخلي وعُمقه وما إذا كان سيُطبَّق بفاعلية. لكن الواضح منذ الآن هو أنه كانت هناك حاجة ماسّة إلى التغيير، حيث إن مجموعات المعارضة المختلفة في مصر قد تختلف حول أمور عدة، لكنها تُجْمِع على وجوب توقُّف قوى الأمن الداخلي عن مضايقة الناشطين السياسيين وناشطي المجتمع المدني.
وقد شكَّل تعيين منصور العيسوي – وهو ضابط متقاعد في الجيش يتمتَّع بالمصداقية لدى المجموعات المعارضة – في الحكومة الجديدة خطوة إضافية نحو التغيير. لكن عندما ألقى رئيس الوزراء عصام شرف خطابه الأول في ميدان التحرير في الرابع من مارس الماضي، قاطعه العديد من الحاضرين بصوت عالٍ للمطالبة بإجراء إعادة هيكلة جذرية وفورية لمباحث أمن الدولة. وبعد 24 ساعة فقط، اقتحم مئات المحتجِّين مكاتب مباحث أمن الدولة في كل من القاهرة والإسكندرية ومدن مصرية أخرى لمنع الموظَّفين من إتلاف الوثائق التي قد تُثبت تورُّطهم في الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. وكانت إشاعات قد بدأت تسري في مطلع مارس الماضي بأن جهاز مباحث أمن الدولة يستعيد نشاطه من جديد بعدما تنحَّى جانباً لأسابيع عدّة، وبأن ضُبَّاطه يؤججون نيران الخلافات المذهبية من أجل إثبات الحاجة إلى خدماتهم. فقد لقي 13 شخصاً مصرعهم في صدامات طائفية في 8 مارس المنصرم، وشهد ميدان التحرير من جديد صدامات عنيفة بين المتظاهرين والبلطجية الذين يعملون لحساب الأجهزة الأمنية.
أعلن الوزير العيسوي في 15 مارس الماضي أنه سيجري اختيار ضُبَّاط القطاع الأمني الجديد في الأيام المقبلة، دون أن يوضِّح إذا كان سيتم صرف ضباط مباحث أمن الدولة (وربما السماح لهم بالتقدُّم بطلبات ليشغلوا من جديد الوظائف نفسها) أو إذا كانت القيادة العليا فقط هي التي ستتغيَّر. وفي الواقع إن تسريح جهاز أمني بحجم الجهاز المصري ليس بالعمل السهل. فقد عمد مبارك خلال حُكمه الذي استمر 30 عاماً، إلى زيادة حجم مباحث أمن الدولة وتوسيع نطاق صلاحياتها بصورة مستمرة. ففي عام 1974، كان عدد موظفي الشرطة 150 ألفاً فقط، ولكن بحلول عام 2009، أشارت تقديرات المحللين إلى أن وزارة الداخلية المصرية تدير 1.7 مليون موظف بينهم حوالي 400 ألف ضابط في مباحث أمن الدولة و850 ألف شرطي نظامي وموظف في الوزارة و450 ألف عنصر في قوات الأمن المركزي. ومن أجل إدراك الحجم الفعلي لهذه الأرقام، لا بد من الإشارة إلى أن عدد موظفي الأمن الداخلي في مصر يفوق عدد الجنود في الخدمة الفعلية بمعدل ثلاثة إلى واحد، وكانوا يُشكِّلون في عام 2002 خُمس مجموع موظفي الحكومة المركزية.
وقد واجهت حكومة مبارك طوال مرحلة التسعينات موجة من الهجمات الإرهابية في الداخل، فعمل النظام على إصدار سلسلة من القوانين أدَّت إلى كبح الحقوق المدنية والسياسية وتوسيع جهاز مباحث أمن الدولة، وقد برر ذلك بالقول بأنها ضرورية للتصدي للتطرف الإسلامي. وكانت الجماعتان الإرهابيتان المحليتان، الجماعة الإسلامية والجهاد، الهدفين المعلنين لحملة التدابير المشددة، لكن في الواقع استخدمت القوى الأمنية أيضاً صلاحياتها الواسعة للتضييق على المعارضين السياسيين للنظام ومنعهم من ممارسة أي تأثير. فإلى جانب الأشخاص الذين يُشتبه في انتمائهم إلى المتشددين، اعتقلت الحكومة الناشطين المعارضين وبينهم الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين التي لم تلجأ إلى العنف أو تنادي به منذ عقود. وقد تعرَّض مئات السجناء الذين جرَّدتهم حالة الطوارئ المطبَّقة على نطاق واسع من حق الاحتكام إلى القانون، للتعذيب أو قُتِلوا حتى من دون أن توجَّه إليهم تهم جنائية. ولم تتم ملاحقة مرتكبي هذه الانتهاكات قضائياً سوى في حالات نادرة. وحتى 31 يناير 2011، لم تجرِ إدانة أي ضابط في مباحث أمن الدولة بتهمة التعذيب، وفقاً لمنظمة حقوق الإنسان "هيومان رايتس ووتش"، على الرغم من مثول ضباط أمام المحكمة في ثلاث قضايا على الأقل.
وقد فرض جهاز مباحث أمن الدولة في مصر ثقافة الدولة البوليسية وعززها، حيث كان يتم تشجيع المصريين المعنيين بالسياسة أو المجتمع المدني للوشاية عن جيرانهم وزملائهم بطريقة أو بأخرى. وكان من المعروف أن الموظفين الحكوميين والمواطنين يحتاجون إلى تصريح غير رسمي من مباحث أمن الدولة في مجموعة واسعة من النشاطات التي تُعتبر حسَّاسة، مثل السماح لمنظمة غير حكومية بقبول منحة، أو ترميم كنيسة أو بنائها، أو تعيين مسؤول جديد عن برنامج أكاديمي. وكان معلوماً للجميع أن مباحث أمن الدولة كانت تعمل على تشويه سمعة ناشطي المجتمع المدني المعارضين للنظام. واشتهرت مباحث أمن الدولة أيضاً بتحريك التصدُّعات داخل المجموعات المعارضة التي كانت تُعتبر أنها تجاوزت الخطوط الحمراء غير الرسمية.
هناك حاجة مُلحّة في مصر حالياً لإعادة تعريف مهمة قوى الأمن الداخلي بعيداً عن التعذيب والتعسُّف والمناورات السياسية والتدخل غير المبرر في الشؤون الخاصة، والتركيز بدلاً من ذلك على مكافحة الإرهاب والجريمة. وكان إعلان الوزير العيسوي التعبير الأوضح عن هذه النيّة حتى الآن. وسوف تبدأ المرحلة الصعبة، حيث يجب اتخاذ قرارات عن حجم القوة الضرورية، وإعادة تدريب الضباط، ودراسة سبل تفادي وقوع مشاكل خطيرة يتسبب بها المفصولون من الخدمة؛ فلن تكون هناك على الأرجح حاجة إلى شرطة سرّية بهذا الحجم إذا أصبحت وظائفها أكثر محدودية. لن يكون هذا كله سهلاً، لكن لا مفرَّ منه. حتى إذا أجرت مصر انتخابات رئاسية وتشريعية حُرة 100%، فإن من المستحيل أن تتمكن من الانتقال إلى ديموقراطية حقيقية إذا استأنفت أجهزة الأمن الداخلي عملها كما كان عليه الأمر في مرحلة ما قبل الثورة.