ينتظر أن يصل جثمان الكاتب محمد صادق دياب من لندن إلى جدة غدا فور إنهاء الإجراءات الرسمية، طبقا لما قاله لـ "الوطن" أحمد صادق دياب عقب إعلان وفاة شقيقه الأكبر صباح أمس في أحد مستشفيات لندن الذي كان دياب يتلقى علاجه فيه منذ أكتوبر الماضي إثر اكتشاف إصابته بحالة متأخرة من سرطان القولون. وأعرب أحمد دياب عن شكره لاتصالات المواساة والتعازي التي تلقاها طوال أمس سائلا المولى عز وجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته.

الى ذلك عبر الشاعر عبد المحسن حليت مسلم الذي رافق الراحل في رحلته العلاجية عن حزنه العميق لرحيل أحد أهم أصدقاء العمر كما سماه، لافتا إلى أن دياب كان عبارة عن عشرة كتاب تم اختصارهم في واحد، فهو كاتب يستطيع أن يقتحم عقلك وبيتك ومكتبك وفي كل مرة لا تملك إلا أن توجه إليه دعوة جديدة لمزيد من الاقتحام. بينما تهدج صوت الدكتور عاصم حمدان وجاء مبللا بالدمع وهو ينعى الراحل، ولجأ الكاتب محمد الفايدي إلى تناول حبوب مهدئة ليتماسك عقب الصدمة التي داهمته برحيل أعز أصدقائه كما وصفه داعيا له بالرحمة والغفران.

وفاضت الوسائط الإلكترونية ومواقع الشبكة العنكبوتية بعشرات منشورات النعي والترحم على الفقيد فور ذيوع الخبر، وقالت في صفحتها بالفيس بوك ( دار جداول) التي نشرت أخيرا رواية ( مقام حجاز) آخر إصدارات دياب (تتقدم دار جداول بخالص العزاء في وفاة الكاتب الكبير محمد صادق دياب رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان)، فيما تناقل الوسط الثقافي الخبر والتعازي عبر رسائل الهاتف الجوال، وسط تلاحم آسر وكبير يكشف حجم الحب والتقدير الذي يحظى به الراحل الذي اشتهر بكنيته (أبو غنوة) كبرى بناته الثلاث (غنوة، سوسن، سماح)، إضافة إلى اشتهاره أيضا بلقب (العمدة) الذي أطلق عليه إبان إشرافه على ملحق الأربعاء الثقافي في الثمانينيات الميلادية لبضع سنوات، حيث كان يحرر صفحة أسبوعية بعنوان (مركاز العمدة) ويوقعها باسم العمدة.

وبينما يسترجع المشهد الثقافي السعودي (أنا شراع ضل طريقه في اليابسة فأوشك على الغرق) إحدى العبارات التي وصف بها دياب نفسه، يؤكد الباحث عبد الله ابكر أن دياب سيظل خالدا في الذاكرة لما انطوى عليه من أخلاقيات توجته حبيبا في قلوب الجميع رحمه الله.


من ينشر (الخواجة يني) آخر إبداعاته؟

جدة: الوطن


بعد تجربة ثرية قاربت الأربعة عقود في عوالم الصحافة والكتابة والقصة وتدوين التاريخ، يطوي محمد دياب أوراقه ويرحل تاركا إرثا كتابيا بديعا احتفى بالمكان وبكل ما هو إنساني وحميم.

في (مقام حجاز) آخر إبداعاته، والذي جاء في قالب رواية استعاد دياب حقبة بناء سور مدينته (جدة) وما صاحب قصة البناء من تفاصيل إجبار حسين الكردي الأهالي بما فيهم الأثرياء والتجار على حمل الحجر والطين، وبكل قسوة وشدد على البنائين لدرجة أنه إذا تأخر أحدهم عن الحضور مدة قصيرة أمر بالبناء عليه حيا في جوف السور. من هذه القسوة يعبر دياب، جادلا روايته في قرابة 220 صفحة ملأى بالوجد وصبابات العشق، مستعيدا عبر أربعة فصول فضاءات جداوية عتيقة، هي المدينة في بعدها التأسيسي والجمالي، حيث مواسم الجدب والبحر والمطر ومناخات (المعادي، سقيفة الهنود، زقاق الخراطين، سوق الندى، بحر الأربعين، برحة العيدروس، قوز الهملة مسجد عكاش، باب البنط الخاسكية، وحارات جدة الأربع التاريخية "البحر، اليمن، الشام، والمظلوم") والأخيرة تظهر فانتازيا وتستثمر أسطورة تسمية المكان من واقعة إعدام البرزنجي أحد أبطال الرواية والذي قرأ النظارة في دمه المراق لحظة إعدامه أنه مظلوم، كونه ثار على الأجانب الذين كانوا حاضرين في المدينة عبر القنصليات الدبلوماسية. تدرج الكاتب في تتابع كلاسيكي لنمو الأحداث بدءا من الفصل الأول: سور جدة 1513، وفيه يبدأ (من تزاوج الصحراء بالبحر ولدت مدينة جدة.

ومن فضة الموج جدل أهلها ضفائر حكاياتهم البيضاء.

ومن رحابة الصحراء نسجوا خيام قلوبهم، فاتسعت لتقلبات الأزمنة.

فهذه المدينة الأنثى تعودت إذا ما أنطفأ النهار، وتثاءبت النوارس على صواري المراكب الراسية أن تدوزن أوتار قلبها على مقام العشق وتستوي على الشاطئ جنية حسناء تغازل البحارة والغرباء وعابري السبيل وتنثر ضفائرها فنارا فترحل صوبها أشواق المواويل وأحلام النواخذة).

ثم يملأ فضاء العمل بما يمتاح منه فضاء الحياة الاجتماعية في الحجاز من المزمار وموشحات الصهبة وأنغام السمسمية، وتداخل مع أجواء مكة والمدينة المنورة عبر رحلات الركب والفلكلور.

وإذا كانت هذه الرواية آخر ما طبع له، ثم رواية أخرى مازالت مسودة بعنوان (الخواجة يني) التي تحكي قصة اليوناني الأخير (يني) الذي كان يقيم في مدينة جدة، وكان يملك محلا تجاريا له مكانته في ذاكرة أهالي جدة. وبرحيل دياب أمس يعول السؤال عن الجهة التي ستتولى طباعة ونشر هذا العمل.





 


سيرة ذاتية

من مواليد جدة 1946م.

ماجستير علم نفس تربوي من جامعة ويسكنسن بالولايات المتحدة.

دبلوم عالي في الإدارة التربوية من جامعة أوكلاهوما الأميركية.

بكالوريوس تربية وعلم نفس من كلية التربية بمكة.

عمل في التعليم معلما ومحاضرا وموجها تربويا حتى تقاعده عام 1994م.

عمل في جريدة المدينة وأشرف على ملحق الأربعاء.

رأس تحرير مجلات اقرأ، والجديدة.

أدار مكتب مجلة سيدتي بالسعودية.

كان يشغل رئاسة تحرير مجلة الحج والعمرة حتى وفاته.

اختير عضوا بنادي جدة الأدبي عام 2008 لكنه استقال ولم يستمر طويلا.

مؤلفاته:

الأمثال العامية.

16 حكاية من الحارة "مجموعة قصصية".

ساعة الحائط تدق مرتين "مجموعة قصصية".

عباقرة الأدب والفن.. جنونهم وفنونهم.

جدة.. التاريخ والحياة الاجتماعية.

المفردات العامية بمدينة جدة.

امرأة وفنجان قهوة "مقالات".

مقام حجاز "رواية".

الخواجة يني "رواية لم تنشر".




رثاء


أبا غنوة.. لماذا تَرَكْتَ "المقام" وحيدا؟


حسين محمد بافقيه*


بَعَثَ إلى أصدقائه وأصفيائه رسالة هاتفيَّة يُنْبِئُهم فيها أنَّ روايته "مَقَام حِجَاز" قدْ صَدَرَتْ، وأنَّه يأسف لأنَّه لا يستطيع أنْ يهديها إليهم بنفسه، فهو بعيد عن الوطن، في لندن، يتلقَّى العِلاج.

وسرْعان ما هيَّأْتُ جوابًا إلى أبي غنوة محمد صادق دياب أنَّني سعيد بصدور روايته، ومتشوِّق إلى قراءتها. وقبْل أنْ أُتِمَّ قراءة روايته كانتْ حياته قدِ استوفتْ أجلها:

طَوَى الجَزِيرَةَ حَتَّى جَاءَنِي خَبَرٌ

فَزِعْتُ فِيهِ بِآمَالِي إِلَى الْكَذِبِ

حَتَّى إِذَا لَمْ يَدَعْ لِي صِدْقُهُ أَمَلاً

شَرِقْتُ بِالدَّمْعِ حَتَّى كَادَ يَشْرَقُ بِي

وها هو ذا الأستاذ الجليل والأخ الكبير والنَّاصح الأمين محمد صادق دياب يغادر هذه الدُنْيا الفانية إلى الآخِرة الباقية، ويترك "مقام الحجاز" وحيدًا، ولطالما أصْغَيْنا إليه الأسماع، وهو يتحدَّث حدِيثَ العارف الْمَشـُوقِ، عنْ التَّاريخ غير الـمدوَّن للحـارَة الحجـازيَّة، وعنْ تلك الشَّـخْصِيَّات التي أحبَّهـا مِنْ رُمـُوز الْمَحـَلاَّت القديمة في جدَّة، وكان، بِحَقٍّ، أحد السَّدَنة الكبار لِمُخَبَّآت جدَّة وتراثها.

كان أبو غنوة – رحمه الله – قريبًا مِنْ كلِّ أحد، متواضِعًا، عَفَّ اللِّسان، يَتَحدَّثُ إليك وكأنَّه معْنِيٌّ بك دون سواك، تَطْرَبُ للهجته الحجازيَّة العَذْبة، وهو يُحَدِّثُك في الأدب أو الثَّقافة أو في شأن مِنْ شؤون الصّحافة، وتأنس إليه، وهو يَجُوس في خِلال النَّفْس الإنسانيَّة، في فنونها وجنونها، فاحصًا وكاشفًا، فهو العارف بأسرارها منذ اختار "عِلْم النَّفْس" اختصاصًا له، وهو، في كلّ ذلك، يَغْمُر الجميع بتواضعٍ جُبِل عليه، يرفده ظَرْف حِجَازِيّ تَحَدَّر إليه مِنْ آباء الحارة الحجازيَّة، وتسلَّم أمانة التَّاريخ فكان شاهدًا على العصْر، وكان يَحْلُو له – رحمه الله – أن يصف جِيله بأنَّه "جِسْرٌ" بين جِيلَيْن، وأَحْسَبُ أنَّه نَذَرَ نفسه وثقافته لمدينته جدَّة وتراثها وأهلها، واستطاع أن يَصِل بثقافة الحارَة إلى قرَّائه الذين عَرَفُوا فيه صِدْق اللَّهجة، وحلاوة الأسلوب وخِفَّة الظِّلّ.

رَحِمَ الله الأديب والكاتب والصَّحفيّ والمربِّي العُمْدة محمد صادق دياب وتغمَّده بواسع رحمته، وألهم أهله وذويه ومحبِّيه الصَّبْر والسّلوان.


* ناقد ورئيس تحرير صحيفة أم القرى